سيتبيّن لأولي الحصافة والرأي كيف أنني أنا، الشيخ إيتيزا مودين، الحاج والمسافر الذي ضجر من طيّ المسافات وعبور البلدان والأمصار، أنا ابن تاج الدين، أنا القاطن في بلدة بانشنور سافرت إلى أوروبا، استجابة للأقدار وليس اختيارا، ودوّنت تجربتي في هذا الكتاب ووصفت العجائب والغرائب التي رأيتها هناك. وحتى يستطيع القارئ أن يغنم من محتواه دون عناء، عمدت إلى الاختزال، وأدرجته في مكتبة العالم حتى لايمحى ذكري”. هكذا حدّث الرحالة البنغالي ميرزا إيتيزا مودين عن رحلته من الهند إلى أوروبا في نهاية القرن السابع عشر. كان مودين مسكونا بالترحال، مأخوذا بالمغاير والغريب. لكن رحلته إلى أوروبا لم تكن اختيارا بل تكليفا. فلقد كلّفه الشاه ألوم ملك دلهي بمرافقة السفينة الحربية البريطانية التي قدمت إلى الهند وأبرمت معاهدة شراكة تجارية مع الملك. وإنه لأمر مذهلٌ فعلا أن ملك دلهي قد أركب مودين السفينة وأوكل إليه مهمة توسّل التاج البريطاني كي يُبقي الجيش الانجليزي في دلهي. حتما لم يكن الملك يدري أنه كان يخطّ أول صفحة في تاريخ احتلال الهند ونهب ثرواتها. يصوّر مودين هذه اللحظة الجلل هكذا: “في سنة 1180هـ انتهى اللورد كلايف من إبرام معاهدة الشركة واستأذن الشاه ألوم في الرحيل... فقال الشاه ألوم وعيناه مغرورقتان بالدموع: لقد رتبت شؤون الشركة وفقا لرغبتك، ولم تكلّف نفسك عناء تعزيز ثروتي. أنت لا تنوي إبقاء الجيش الإنجليزي بالقرب مني، في الوقت الذي أتربّع فيه على عرش دلهي. وها أنك الآن تعتزم الذهاب تاركا إياي في خضم من الأعداء”. لم يشغل الرحالة مودين نفسه بما وراء رحلته من خطر على الهند. كان يعتقد أن الانجليز أصدقاء. وللصداقة والصديق في متخيله الإسلامي منزلة ومكانة لذلك انشغل بتهجّي العالم وهو في طريقه إلى انجلترا. حدّث مثلا عن جزر المالديف وافتتن بناسها فكتب: “يبني سكان جزر المالاديف سفنهم من ألواح شجر البلميرا. وهم لا يشدّونها بالمسامير، بل يربطون ألواح السفينة بالحبال مما يجعل السفينة قويّة إلى درجة أنهم لا يهابون العواصف، بل يملؤون سفنهم بقواقع الكوري وحبات جوز الهند ويشدّون الرحال صوب المدارس وبلسر، ثم يعودون محمّلين بالأقمشة والأرز”. وحدّث عن جزيرة موريس التي احتلها الفرنسيون فأشار إلى أنها مأهولة بالكثير من العبيد الذين استقدمهم الفرنسيون من مدغشقر. حدّث أيضا عن المأكولات التي يتناولها الناس في تلك الجزيرة فأشار إلى أن طعامهم “نبتة ذات جذور تشبه الفجل يصنعون منها الطحين والخبز.” ويقول: “ذات يوم أكلت قليلا من هذا الخبز، فلم أجد فيه طعم الحامض ولا طعم الحلو ولا طعم الملح”. ثمة في رحلة مودين صفحات مطوية طالها النسيان. لكنها صفحات تجسّد سخرية القدر. وتجسّد العلاقة العضوية بين الصداقة والغدر، بين نبل الشرق وشجع الغرب. وللحكاية فصول أخرى.