نكتشف أنفسنا عندما يحتلنا الغضب ويحتوينا، ويمضغنا ويقذفنا في وجه الآخرين مثل نوى البلح، أو مثل غضاريف تالفة. هنا يبدو لنا القصور الذاتي، والعجز والتلاشي، والاضمحلال والضمور والثبور، وتفتت الجدران الداخلية، وتشقق قماشة الذات، ونحول العظم في الهيكل العام للنفس.
الغضب مثل الموجة التي تعري السواحل، الغضب مثل الريح التي تنحت الجبال، الغضب مثل الشلال الذي يقلب الصخور رأساً على عقب.
عندما يجتاحنا الغضب، نصبح عراة، حفاة، ونخرج إلى العالم مثل الأسماك التي يلقيها الهدير على الشطآن، جامدة، هامدة، خامدة، راكدة، مسهدة، غارقة في سكونها محترقة في صهدها.
الغضب هو المنجل الذي يحرث أرضنا الداخلية، ويخرج منها كل الحثالة والنفايات، ويجعلها عارية من المضمون، يجعلها خالية من المحتوى.
الغضب هو حقيقتنا، وهو نحن من دون رتوش، أو نقوش، الغضب هو نحن بلا مساحيق تجميل، ولا إعادة تدوير، ولا تزيين، ولا تضمين.
نحن في الغضب نصبح كائنات عشوائية، جاءت إلى العالم بمحض الصدفة، ولكنها بفعل فاعل، ارتكبت فعل الفاحشة، عندما كذبت وأذنبت، واختلست من الوجود، ما يخفي العورة، وما يخبئ التشويه في معطف الخديعة.
الغضب كتلتنا السميكة التي تُزال حين تصطدم النفس بما يحيق بها، وتُحرق أعواد الغضب لتفسد الصفو، وتبعث بالدخان الكثيف إلى السماء، فتعمي الطيور، لتسقط مغمي عليها وتصبح فرائس للضواري.
الغضب هو القدرة الفائقة التي تستجلي ما بداخلنا، وتكشف عن معدننا، وتفصح عن كينونتنا، وتسفر عن مضموننا. الغضب عندما يكشر عن أنيابه الحادة يزيح عن وجوهنا الألوان البراقة التي نطلي بها سحنتنا، وهو الذي يغير من مجرى التيار ويجعله عاتيا شديد المراس.
الغضب عندما لا تصده نفس لوامة فأنه يعيث فساداً في العقل، ويجعله مثل عجلة خربة تنزلق إلى الحضيض بلا هوادة ولا رحمة. الغضب عندما لا تحده قوانين الشكيمة، فأنه يصبح مثل كتلة النار التي تنزل من علو شاهق على رأس عارية.
الغضب عندما لا تعترضه قيم ولا شيم، فإنه يبرز ناب الوحش الضاري، ويختزل عمر الإنسان في هزيمة منكرة، تغير معالم تاريخه من الأبيض إلى الأسود.
الغضب كائن بغيض، تتسلح به النفس المريبة، وتجعله سلاح الأضداد المميت.
الغضب حتى يختفي أثره، يحتاج إلى عقل مثل النهر الصافي، وروح مثل لون الوردة، ونفس من شفافية جناح الفراشة.