في منارة السعديات، كان المتنبي حاضراً في ليل يطرب للمتنبي وتجلياته، هذا الذي ينام ملء عينيه عن شواردها، مالئ الدنيا وشاغل الناس، رغم أنه لم يعش غير واحد وخمسين عاماً، قضاها في أعمال الشعر وسحر البيان الحلال، كان على سفر، كأن الريح تحته، لم يسترح حتى أصبح الدهر لشعره منشداً، كانت ليلة جميلة في عاصمتنا وهي تحتفي بالمتنبي، فمثله لا يحتاج لمناسبة للحضور، لكنه كان جمعاً كريماً اختلط الشعر بالأداء بالموسيقى، بالمعلومة الهاربة، ونبش في سيرة ذلك المتجلي دوماً وأبداً.المتنبي هو واحد من الشعراء الذين يمكن أن نطلق عليهم شعراء كونيين، لا تحده جغرافيا، ولكنه ملء التاريخ وسيرورة الأيام، في قصائده ومنها يمكن أن تستخرج قاموساً لغوياً، ويمكن أن تستخرج ديواناً للحكمة، وكتاباً للبلاغة والبيان والاستحسان اللغوي المميز، وأبياتاً لا تنصاع إلا له، لا لغيره، ما يمكن أن نسميه «معجز أحمد» على رأي شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري، هذا التفرد في زمن قياسي، وذلك الإنتاج المغاير، لا يتأتى، ولا تأتى إلا للمتنبي.
هناك ثلاث مسائل دائماً ما تؤرقني، ما سر ذلك الفيض المعرفي واللغوي عند المتنبي؟ وكيف تحصل عليه، ومن أين؟ ولولا تماسك القصائد وسر وحدتها لقال البعض إنه شعر جماعي، وتركيب وتفكير جمعي، كشأن كثير من الكتب «نهج البلاغة» مثلاً، وكشأن شاعر الإنجليزية «شكسبير» حيث يحولون إنتاجه لـ«فرانسيس بيكون»، ويشككون في شخصية شكسبير أنها وهمية، وإنتاجه جمعي، المسألة الثانية علاقته بكافور الإخشيدي، فقد مدحه بقصائد جميلة وكثيرة، وقتله بقصيدة واحدة، حتى التاريخ انحاز للمتنبي، وظلم كافور الحاكم العادل الذي كان يعس في الليل ويوصل الإعانات والصدقات لبيوت المحتاجين، وليلة العيد التي قال عنها المتنبي: «عيد بأية حال عدت يا عيد»، كان كافور ليلتها يوصل الثياب والملابس والطعام لبيوت المتعففين من سكان مصر، ماتت قصائد مدح جميلة وكثيرة، وحَيت قصيدة ذم وحيدة، أما المسألة الثالثة فقصة موته المرتبكة، والتي أرادها له الناس، فكما كانت حياته «درامية»، لابد وأن تكون نهايته كذلك، فخلقوا تلك النهاية، كشأنهم في كثير من الأمور، ومع الناس الذين يحبونهم، مثلاً حينما لم يؤنثوا اسم عنترة، فارس الفرسان، وأطلقوا عليه عنتر، لذا أرى أن نهاية المتنبي مختلفة، وبعيدة عن تذكير خادمه له بأجمل أبياته، ورد المتنبي عليه بقتلتني، قبل أن يقتلني فاتك الأسدي الذي ترصد للمتنبي، وحلف أن لا يغتسل ولا يحلق ولا يرتدي جديد الثوب قبل أن ينتقم من المتنبي الذي عيّره، وعال على خاله في قصيدة «ما أنصف القوم ضبة وأمه الطرطبة»!