في الواقع كما في العالم الافتراضي، يتميّز حاضرنا بإطلاق العنان غير المسبوق للأفكار والرغبات وظواهر السعي وراء المال والثراء، وتملك كل وسائل الراحة والرفاهية الممكنة، أو ممارستها على الأقل، هذه الميول الحادة كانت موجودة دائماً، لكن القدرة عليها كانت محدودة عبر التاريخ لأنها كانت حكراً على أنفار من القادرين ونخب القوة والنفوذ والمال، أما اليوم فإنها تصبح شعبية أكثر فأكثر، نتيجة للانتشار الأفقي والكوني للاتصالات، الرقمية خاصة، الذي أتاح تشخيصاً لكل هذه الميول، وظهّرها بالصوت والصورة إلى وجود شبه ملموس، لا ينقصه سوى.. السعي لحيازة الوسائل التي تجعلها واقعية. يُشرّع هذا المناخ الأبواب على المصلحة الشخصية بكل تجلياتها ولا يوفر منظومة القيم والأخلاق والقيمين عليها، ولا حتى من ينطقون باسم العقائد ولا الأديان، فتنتعش مرة ثانية البيئة الحاضنة للأنانيات، بشكل عشوائي وقياسي، وعلى نطاق بشري واسع، قد يدفع العالم عاجلاً أم آجلًا، نحو قدسية المصلحة الشخصية، التي قد تؤدي إلى صدامات من كل نوع، وربما أزمات وانفجارات حول مصادر الثروة وموارد القوة، سواء على صعيد العالم ككل، أو على صعيد كل بلد أو إقليم. ثمة ظرفان، يحددّان مصير هذا التحدي وهذا الاحتمال. الأول، مدى استمرار حالة عدم الاكتراث الأخلاقي والقيمي تجاه هذه الظاهرة، والمتمثّل على وجه الخصوص بموقف الفعاليات أو المؤسسات الروحية والتربوية والإعلامية، التي تلعب عادة دور الحصن المنيع للنظام الأخلاقي. ومن المهم هنا الترجيح بأن المطلوب لن يكون بالعودة لأخلاقيات عصر مضى وصلت إلى حائط مسدود، بعدما ثبت أن معظم هؤلاء القيمين، لم ينأوا بأنفسهم عن الشهوات والسلطة والمال. الثاني: مدى القدرة على التهذيب الحضاري والإنساني لهذه الأنانيات في سياق المصلحة والأخلاق العامة. إن عالمنا اليوم هو بشكل ما نتاج عصر الرأسمالية التي تقول–وفق منظّرها آدم سميث في القرن الثامن عشر- بأن “الدافع الشخصي هو أكبر ضمان للصالح العام” والتي كانت تؤدي حتى الأمس القريب لنشوء طبقات جشعة وبرجوازيين، وأثرياء طارئين على حساب طبقات مسحوقة أو مستورة. أما عصر التكنولوجيا الثورية والمعلومات والصحافة الشعبية والتواصل الاجتماعي بين الملايين وتحول الاتصالات-كوسائل إنتاج- إلى مرحلة من الانتشار الشعبي- الديمقراطي فإنه يضيق الفوارق بين الطبقات في العالم الافتراضي، كما يطلق العنان للرغبات والأحلام.. والمصلحة الأنانية الشخصية. لعلّ من المفيد أن نستذكر بهذا السياق النقاش الذي شهدته أوروبا منذ القرن التاسع عشر بشأن “الأنانية العقلانية” والأنانية الأخلاقية، ونستذكر أكثر مفهوم “المصلحة الذاتية المستنيرة”، الذي يقول إن الأفراد، الذين يتصرفون من أجل مصلحة الآخرين، يحصلون في نهاية المطاف على نفع ذاتي. هكذا يمكن الحد من تيارات المصلحة الشخصية ذات الدفع الأناني، والتي تؤدي إلى مضرّة عامة. وسواء نجح ذلك أم لا، أخشى القول إن الأخلاقيات المجردة والمثاليات قد ولّت إلى غير رجعة- للأسف الشديد. barragdr@hotmail.com