الموسيقى لغة كونية عابرة للحدود والأزمنة والأعراق. لذلك لعبت دورا كبيرا في الحوار بين الثقافات والشعوب شمالا وجنوبا، مشرقا ومغربا. الموسيقى لا تحتاج إلى نقل أو ترجمة. إنها اللغة التي يفهمها الناس على اختلاف أعمارهم وتباين أعراقهم ومشاربهم. تنبّه العرب القدامى إلى أن الموسيقى ليست مجرد فنّ غايته التسلية والطرب والاستمتاع، وألحّوا على أنها يمكن أن تستخدم في الطب علاجا للعديد من الأمراض النفسية والجسدية. كان العرب على وعي بأن الروح من خصائصها الاعتدال، لأن علّة كلّ حسن الاعتدال، كما أن علّة كلّ قبيح الاضطراب، والموسيقى إنما تقوم على الاعتدال والتناغم الكلي. وهذا ما يجعلها تلائم نفوس الناس وتلبّي حاجتهم إلى الجميل. والجميل في حدّ ذاته يفتن النفس ويزيدها أريحية ويبعد عنها الغمّ. لذلك جزموا بأن الموسيقى بلسمٌ شافٍ. كتب ابن عبد ربه الأندلسي في كتاب “العقد الفريد”: “زعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم ويجري في العروق، فيصفو الدم ويرتاح له القلب، وتهشّ له النفس، وتهتز الجوارح وتخفّ الحركات”. وإلى الرأي نفسه ذهب إخوان الصفاء فكتبوا: “كل ذلك بحسب تغييرات أمزجة الأخلاق واختلاف طباع وتركيب الأبدان في الأماكن والأزمان ولذلك استخرجوا لحناً يستعملونه في المارستانات وقت الأسحار يخفّف من ألم الأسقام عن الأمراض، ويكسر سورتها، ويشفي كثيراً من الأمراض والإعلال”. حرص الأطباء والفلاسفة والمفكرون العرب على توظيف الموسيقى في الطبّ بعد أن وظّفوها في حماية الهوية الثقافية وترسيخ المعرفة بالشعر العربي واكتشاف ما فيه من قيم جمالية وفكرية خالدة. ومن ذلك مثلا استخدامهم للموسيقى في معالجة الأمراض النفسية والأمراض العقلية. فلقد عمد الكندي مثلا إلى تقسيم الألحان أقساماً عديدة وبوّبها بحسب فاعليتها في النفس في المقالة الخاصة بتأليف اللحون في “كتاب المصوتات الوترية من ذات الوتر الواحد إلى ذات العشرة الأوتار” وتوسّع في تناول النغمات والأوتار والإيقاعات مبيّنا تأثيرها في أعضاء الجسم. ويحدّث أبو بكر الرازي عن فاعلية العلاج بالموسيقى على المريض المصاب بمرض عقلي سمي “الماليخوليا”. أما الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا فحدّث عن مرض الماليخوليا وعلاجه وجزم قائلا: “ويجب أن يشغل صاحب الماليخوليا بشيء كيف كان... ويشغل أيضاً بالسماع والمطربات، الآخر من الفراغ والخلوة. وكثيراً ما يغتمون بعوارض تقع لهم أو يخافون أمراً فيشتغلون به عن الفكرة ويعاقون، فإن نفس إعراضهم عن الفكرة علاج له أصيل”. ولذلك أيضا كتب ابن جزلة جازما في كتابه “تقويم الأبدان”: “الموسيقى من الأدوات النافعة في حفظ الصحة وردها؛ وتختلف بحسب اختلاف طباع الأمم”. وألحّ داوود الأنطاكي في كتابه “تذكرة أولي الألباب” على أن لا شفاء من الإصابة بمرض الاكتئاب إلا “بالنظر في الحساب والتصاوير والهندسة، وإن ضاق نطاق التفكير عن ذلك، فسماع الأصوات، والآلات الحسنة”.