يقول سان جون برس، الشاعر الفرنسي الذي تعامل مع البحر في شعره، وذكر نباتاته الكثيرة المختلفة، وصخوره وحاول أن يسبر أغواره الغامضة، في ديوانه “منارات” Amers، وربما ترجمت “مرارات” لكنّ الأرجح “منارات” لتعلقها بالبحر: “يسمونني سيّد البحر والملاحة، يسمونني الغامض”. ولست أدري في العربية، مَنْ، خَلا حنّا مينة في “حكاية بحار” “والياطر” خصص إبداعه للبحر، على ما فعل إرنست همنغواي مثلاً في “الشيخ والبحر”، ولا أعرف قصيدة عربية اشتهرت شهرة قصيدة “المقبرة البحريّة” في الفرنسية.. ولماذا؟ ـ أسأل نفسي وأجيب: لعلّه لأن البحر مزاج بحري، ومجاورة، ومغامرة، وإصغاء للموج وللمحارات على الشاطئ، وفي هذا ما فيه من ضرورة تقصّي الغبطة البحرية التي لا يعرف منها الكثيرون أبعد من التمدّد على الشاطئ في فصل الصيف، والغطس في المياه الدافئة، وتسريح النظر في أجساد المستحمات ولسن كلهنّ جميلات ورشيقات، وتناول الطعام أو الشراب على الشرفة البحريّة.. وهي جميعها مسائل ممتعة، ولا يحسبنّ أحد أننا ضدّها أو لنا على أصحابها مآخذ، ولكننا نقصد غير ما يقصدون. نقصد الدخول في البحر، واعتباره الحياة والمغامرة، واعتباره الوجود واللانهاية، واعتباره ضرع اليابسة، وحوض العالم، ومنه وإليه تعود المياه من خلال دورتها الرائعة التي لا تنتهي من أول الحكاية إلى آخر الحكاية، من أوّل ما تطلع الشمس فوق البحار، وتجذب إليها بشبكة أشعتها قطرات المياه، لتصعد بخاراً وغيوماً، تتمشّى في السماء، ثم تصطدم ببعضها البعض أو بالجبال، وتحدث رعود وبروق، ثم تنزل أمطاراً تتلقفها الجبال والسهول، وتجري في مجاريها من الأنهار والسواقي إلى أين؟ إلى البحر.. لتعود فتعلو وتهبط وهكذا إلى ما شاء الله. من البحر وإلى البحر.. هكذا الحياة والمياه التي منها كل شيء حي، ولكن أيضاً ليس هذا ما نقصد إليه. على شاطئ البحر وفي المراكب والسفن المسافرة، يعيش بحارة وصيادون ومغامرون، أعطاهم البحر لون بشرتهم النحاسية القاسية ولون عيونهم المغامرة، وسواعدهم الشبيهة بالمجاديف، ووضع في حناجرهم أناشيد البحر، وأهازيجه، وشهوة الخطر، وتحدّي الأمواج والإبحار في وسط العاصفة، لا أقصد السفن الحديثة والسفن الحربية المزوّدة بكل ما يقهر عقبات البحار وتقلّب الأمواج، بل أقصد السفن المعرّضة لهبوب العواصف، وجموح الرياح، وليس لها ما يحصّنها أو يعصمها من جنون البحر، الكثير من الوسائل والتقنيات.. أقصد المغامرة في البحر، وأقصد جنون الأمواج.. ووقوف البحار وحده عارياً بين الماء والسماء بعيداً وبعيداً عن اليابسة تحلّق فوق رأسه طيور البحر، وتدور حوله الحيتان بمناوراتها المريبة.. وهو يقول: والآن.. ماذا أفعل يا الله؟