يمثل نثر الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني نموذجاً لقدرة الشعري على الكمون في النثري واحتوائه، فهو واحد من شعراء الحداثة الذين يشدنا نثرهم كما شعرهم، وتلتمع في ثناياه توهجات اللغة وتصاعد إيقاعها الأسلوبي ليمنح القارئ متعة التأمل في الفكرة ومعاينة اللغة الشعرية المتخفية في طبقات النص النثري. كانت صفحته (قفص الأمواج) الأسبوعية في «الاتحاد الثقافي» وفي سنوات حرجة من مرضه وعلى حافة غيابه المفاجئ تحفل بتنقل حر في الفكرة وتمثيلها نثرياً بحيوية الشعر وجمله المتوترة وإيقاعاته المتحصلة من التقابلات والتنافرات والتطابق والتكرار والتمثيل الاستعاري للفكرة وتوسيعها وتمددها الحر في أرجاء النص انبثاقاً من تمدد موازٍ هو نتيجة اشتغال الذاكرة والخيال معاً. بدءاً من العنوان الذي اختاره أحمد راشد لصفحته نتسلم رسالة شديدة الدلالة. الأمواج هي التي سيقف عندها الشاعر ليفك أسرارها مستسلماً مأسوراً يراجع ماضيها وذكرياتها التي أصبحت جزءاً من ذاكرته. في واحدة من صفحاته الأسبوعية يتحدث عن الثقافة الشفاهية وما خسرته عبر الهيمنة الأجنبية: الكولونيالية الأوروبية مجسدة بالبرتغاليين والبريطانيين. وينطلق من خورفكان (قريتي التي أود دائماً أن أتخيلها وديعة) كما يقول وما تكتنز من حكي ليستعيد ماضيها وينتقل ببراعة ليربط ماضيه الثقافي وقراءاته المبكرة بالنسيان الذي نالته الثقافة الشعبية. إنه يستذكر بدايات تجربته الأدبية التي كانت كما يعترف (مشوبة بنزعات يسارية) مروراً بالانخراط في جهد ثقافي تعتليه لافتة الحداثة. لكن أحمد راشد سينقلنا بخفّة وسلاسة إلى وعيه اللاحق: لقد انتقل من تلك النزعات واللافتات للاعتقاد بأن الثقافي بأنواعه وأشكاله (هو أهم من كل المقولات السياسية والثورجية الجافة). يأخذنا في مقالته تلك إلى قراءاته: يمر بها ولا يرهق القارئ بتفاصيلها: يذكر ما قرأ من الشعر مترجماً من الألمانية والفرنسية: قصائد هولندرلين وريلكة وهاينريش بول ورامبو وبودلير ولوتريامون، وفلسفة هيجل ونيتشه وهايدجر، ولكن مفهوم الكتابة لديه لم يمنعه من (سماع تلك الأصوات الشفاهية السردية حكائية أو شعرية)، وفي مطلع الألفية الجديدة سيجد في حوزته نصوصاً شفاهية سيعمل على تحريرها ونشرها في كتب، ويوغل في الاقتراب من تلك الثقافة التي أقصتها الهيمنة والحداثة معاً. في مقال آخر يبدأ من الموت وحضور الموتى. يراجع أحمد راشد أحداث عام 2011 مستهلا بالغياب: (من مات قبل مطلع 2011 فإنه بلا شك قد خسر معاصرة لحظات عظيمة ومهيبة واستثنائية وفاصلة)، ومن العام والحدثي ينتقل كعادته إلى الخاص والروحي فيقول: (لقد تغيرت الكثير من مظاهر الحياة وأفكارها وأحاسيسها.. سنصاب بالدهشة كما سنصاب بالدمعة الطافحة من الأرواح المسحوقة) تلك أرواح الثوار الذين (بينما كان النيل نائماً بهدوء وكأنه لم ينم منذ قرون، كانت الأرض لا تكاد تحملهم رغم الثقل الذي يمثلونه). في نثريات أحمد راشد ثاني أكثر من أمثولة: الفكرة المستمدة من المعاصرة والتراث، من الواقع والمخيلة، من الاستذكار الذاتي ودمجه بالمشترك الإنساني بأسلوب يؤطر الشعر مفرداته وعناصره ويهبه جدارة الدراسة الوافية.