تقف بجوار بحر البطين، ثمة هدوء وسكون، الأمواج هادئة مترقبة، تتكسر برفق على الرمال المستلقية، قد تنصت جيداً، البحر له هدير، صوت أزلي، كأن البحر يدندن بأغان وأهازيج الصيادين العائدين، ومن بعيد، هناك في أعماق البحر، يتردد صدى النهامين، وتسمع أنفاس الغواصين المتقطعة اللاهثة.. يحكي لك البحر قصص الكفاح والبطولة، ويحكي لك عن ذلك النواخذة الذي ظل يمخر عبابه حتى آخر يوم في حياته، بحثاً عن رزق السماء في أحشاء البحر، عن حب، عن مستقبل أفضل للأبناء.. يخبرك البحر بحكايات الطواشين، وقصص العشق والغرام بين الماء والخلجان، بين البحارة والمحاميل، وبين الدانات والأصداف.. يضج المكان فجأة بهمهمات العائدين من الأعماق، محملين بالتعب، بالعرق، بالخير الوفير، بالحبال والشباك والمعدات، وضجيج الأولاد الراكضين لاستقبال الآباء، والنساء اللاتي يقفن بعيداً على السيف يترقبن بشغف عودة الأحباب، ومن بينهن تخرج طفلة في ربيع العمر مهرولة، تخترق حشود الرجال، تنادي أباها بصوت ملائكي، تجلجل ضحكاتها في المكان عندما تراه فاتحاً ذراعيه لاستقبالها، تطير لترمي بنفسها بين ذراعيه، يرفعها، يقبلها، يطير بها فرحاً، يدور بها حول نفسه، يحتضنها ويقبلها ألف قبلة.. تتنبه أن المكان لم يعد كما كان، الضجيج يملأ المكان، زوامير السيارات توقظ الكائنات من سباتها، نظرت مرة أخرى صوب البحر، تنهدت أنه لا يزال في مكانه الأزلي كما كان، غير أنها شعرت بأنه يحن الى ذلك الزمن الجميل، يحن الى أولئك الأبطال، شعرت بأنه حزين، بعد أن هجره الجميع، بعد أن انتهت قصص العشق والغرام، وبعد أن توقف الناس عن الاعتماد عليه في الحل والترحال.. نظرت الى خلف الصورة، اختفت تلك المنازل الصغيرة، اختفت تلك الفرجان المتقاربة، حلت محلها غابات الإسمنت التي تستشري في المكان، طفرت دمعة محبوسة، مسحتها، وجمدت صورة البحر في كاميرا الهاتف المحمول، جلست وحيدة، تنتظر عودة الغائبين، تنتظر ذلك النواخذة ليأخذها من يدها، ليحملها على محمله ويطوف بها كل البحار والمحيطات، ليغامر ويكتشف كنوز الأرض، ليكافح الأمواج العاتية، وغضب المحيطات، ويحارب القراصنة.. وفجأة تنبهت لصوت طفلها وهو يعدو ويضحك في الحديقة المجاورة، انتشلها ليعيدها الى الواقع، أيقنت أن ذلك من الماضي السحيق، وأن هذا الطفل هو حفيد ذلك النواخذة، وأن عليه أن يستعيد أمجاد جده قريباً، عندما يشب عن الطوق، أنه يمثل المستقبل الذي كان جده يبحث عنه، ويكافح من أجله، من ذلك اليوم قررت أن تعلمه حب هذه الأرض وهذا البحر.. bewaice@gmail.com