كدأْبنا في كتابة هذا العمود، نعود من حين إلى حين، لتناوُل بعض الأمثال العربيّة القديمة الجميلة المفيدة في باب الْمُذاكرة بلغة أبي عثمان الجاحظ، والْمُثاقَفة بلغة أبي حيّان التوحيديّ، ونتوقّف اليوم عند قوْل العرب: “فتىً ولا كَمَالِكٍ”. وهذا المثل، في الحقيقة، هو معادلٌ لمثليْنِ عربيّينِ آخَرين هما: “مرْعىً ولا كالسَّعْدانِ”؛ و”عينٌ ولا كصَدَّاءَ”! وتُضرَبُ هذه الأمثال الثلاثة حين يمثُلُ معنىً يدلّ على شيءٍ حاضرٍ جميل أو عظيم ولكنَّ شيئاً مماثِلاً له في الخارج يكون أجملَ وأعظم. فإذا قُدِّرَ وجودُ ماءٍ عذْبٍ زُلاَلٍ على نحوٍ ما وقال قائل: ما أعذَبَ هذا الماءَ، فإنّ الْمُجالِسَ قد يقول له: عينٌ، أو ماء ولا كصدّاءَ! أي إنّ هذا الماء عذْبٌ فُراتٌ حقّاً، ولكنْ يوجَدُ ماء أفضلُ منه، وهو ماءُ عين صدّاءَ، وهي عين عربيّةٌ كانت العربُ تُؤْثِرُ ماءَها، فتَسْتَمْرِئُ شرابَه وتستعذِبُه اسْتِعْذاباً. ولا يقال إلاّ نحوُ ذلك حين يمثُلُ مرْعىً خصيبٌ مَرِيعٌ فيقول راعي الإبِلِ لصاحبه: ما أخصبَ هذا المرعَى! فإنّ الصاحبَ قد يجيبه، إذا كان في ذهنه مرعىً آخرُ أخصب ُمنه خِصْباًً، وأمرَعُ منه مَرْعاً: مرْعىً ولا كالسَّعْدانِ! أي أنّ هذا المرعي خِصْبٌ مِمْرَاعٌ قد أَكْلأَ عُشْبُه فاخضَارَّ، ولكنّه لا يبلغ في مَرَاعته المرعَى الذي يتكوّن من نبْتِ السَّعْدان، وذلك لأنّ الإبِلَ تُحبّه فتُقْبل على رَعْيه، فتسمُن أجسامُها، وتحسُن أحوالُها. وننتهي إلى المثل الثالث الْمُعادل والذي عنْونّا به هذا العمود، وهو “فتىً ولا كمالك”، فنقرّر أنّ المعنى الذي يُضرَبُ فيه، أو له، واحدٌ، وهو وجود شيء جيّدٍ في الحاضر، مع وجود شيء مماثل له في الغائب، ولكنْ أجودُ منه جودةً. غير أنّ ذِكْرَ مالك هنا يرتبط بقصّة تاريخيّة مثيرة، ذلك بأنّ المقصود به هو مالك بن نويرة الذي قتله خالد بن الوليد في حروب الرِّدّة، وكان مالكٌ فتىً شجاعاً وسيماً كريماً يتزعّم قبيلته، وكان يَعُولُ أخاهُ الشاعرَ متمّم بن نويرة الذي كان أعورَ (كان يُبصِرُ بعينٍ واحدةٍ فقط). فلمّا قُتِل مالكٌ تأثّر أخوه الشاعرُ متمّم تأثّراً شديداً، وأنشد مرثِيَّتَه العينيّةَ العجيبةَ بالمسجد النبويّ بالمدينة أمام كبار الصحابة، ومطلَعُها: لَعَمْرِي وما دَهْري بتأْبينِ مالكٍ ولا جَزِعاً ممّا أصابَ، فأوْجَعا فتأثّروا لذلك، وخصوصاً عمرَ بْنَ الخطّاب، رضي اللّه عنه، الذي كان تأثُّره أكبرَ من تأثُّرِهم جميعاً... ويقال: إنّ الشاعرَ متمّماً بكى في ذلك المجلس العظيم، بعد أن أَنشد مرثِيَّتَه، حتّى دمعت عينُه العوراءُ، وقد كانت ميتةً لا تدمع! فمتمّم بن نُوَيْرَةَ هو الذي ضرَبَ هذا المثل، فصار رديفاً للمثَلَين السابقين اللَّذَين كانا يُضْرَبانِ على عهد الجاهليّة؛ فكان كلّما ذُكِرَ رجلٌ كريمٌ وسيم نبيل جريءٌ، ذَكَرَ متمِّمٌ أخاهُ مالكاً، فكان يرى كلَّ رجلٍ من الكرام إذا ذُكِرَ، هو دون أخيه مالكٍ في كلّ الصفات المحمودة، والخلال الكريمة.