يا لها من حكمة تلك التي قيلت قديماً عن فوائد السفر: (سافر ففي الأسفار خمس فوائد: تفريج همٍ، واكتساب معيشة. وعلم وآداب، وصحبة ماجدِ)، لكن (اكتساب معيشة) حيرتني دلالتها، فكأنها تدعو إلى الهجرات، لا للسفر المرتهن بوقت يحدده المسافر. أما (تفريج همٍ)، فهي الرغبة الخفية لمن يتوق للسفر. أما (علم وآداب)، فهي المعرفة التي سيكتسبها المسافر عن البلاد التي سيسافر إليها، ويتعرف على سكانها وطرق معيشتهم وسلوكهم وتقاليدهم. وأما (صحبة ماجد)، فهي المصادفة التي ستعرفك بإنسان قد يصبح صديقاً حميماً على مدى أيام السفر والذاكرة! وها هو صيفنا الذي يأتي ككل صيف في بلادنا متقداً بحرارة تضيق بها الأجساد، وجفاف يحيل أوراق الشجر إلى اصفرارها حيناً، ورطوبة حينا تضيق بها الأنفاس، لكنه صيف بلادنا الغالية على كل حال، بقيظه وغيظه. بكسله اللذيذ وخموله المترف. بضبابه الذي يلفنا حد الاختناق، وأبخرته التي تنث كالمراجل. بعجزه الذي لا يعلو به إلى مقام السحب ليهطل مطراً ولا رذاذاً. ولا تمهله رمال الصحراء كي يتبرد به الزهر أو يبتل به العشب من حرائق الشمس.
ورغم ملايين الأجهزة التي تهدر على مدار ثلاثة أو أربعة فصول يظل شرساً حارقاً كجمر توقده شياطين خفية!. إنه صيفنا على كل حال، هذا الذي يهيئ لنا ألف سبب للفرار، ويهمس في أرواحنا ذلك الشوق الغامض الأبدي للسفر. فان اتسعت اليد سافرنا، وإن ضاقت احتمينا بفيء الحلم بالسفر الذي نفتح به جدار السكون وأسيجة الرتابة والملل.
والسفر أيضاً دعوة لاكتشاف ما لم نعرفه، ولم نألفه في البلاد التي سنسافر إليها. إنه دعوة لنهوض الدهشة في حياتنا، والتوغل في ما كان مجهولاً ليصبح معلوماً لدينا، كأننا نخرج من دائرة الجهل إلى دائرة المعرفة. إنه الشوق الخفي الكامن في روح الإنسان للمعرفة والامتداد، وليبرهن لنا أننا كائنات تعشق الحياة بتجلياتها الجميلة. فكأنه نداء خفي إلى ما لا نعرفه بعد. ومنذ قديم الأزمنة لم يكن السفر بدافع الهروب من حرارة القيظ أو شوق المعرفة، فقد أصبح في أزمنتنا هذه التي أصبح فيها دمار الأوطان حدثاً يومياً يدعو إلى الهجرات بكل معانيها ودلالاتها التي تختلف عن معنى ودلالة السفر من الذي يدفع بالمقتدرين إلى التجوال بين البلدان التي ستهبهم المتعة والبهجة، وكسر الرتابة ومألوف المشهد الواحد. وأذكر أن خالتي شاعرة الارتجال المتميزة التي اعتادت أن تسافر كل صيف إلى مدينة «صبيحة» في تركيا، ملت من مشهد جدران البيت، وتتوق إلى مشهد الجبال والغابات، وطراوة الصيف!