من غير المؤكد أن اعتذارات الحكومات يمكن أن تشفي جراح الشعوب. والاعتذار كذلك لا يمكن أن يصحح مسار التاريخ. قبل عقد انشغل ساسة وعلماء دين، بما سمي آنذاك اعتذار الفاتيكان من المسلمين عن الحروب الصليبية. كانت هناك رغبة حقيقية من الجانبين، عززها مخلصون، لحصول مثل تلك الخطوة، ثم حصل شيء ما وأد الفكرة في مهدها.. فبقي جرح التاريخ ماثلا في الضمائر والأرواح. يحدث حاليا أمر مماثل. فالحكومة الاسبانية تدرس مشروع قانون للاعتذار عن طرد العرب والمسلمين المعروفين باسم (الموريسكيون) عام 1609. لكن هذا المشروع يلقى معارضة شديدة من تجمعات اليمين، الذين يعتبرون ألا شيء يستحق الاعتذار. والمعروف أنه في ذلك العام، جرى طرد الدفعة الثانية من الموريسكيين، بعد عملية التهجير الأولى في أعقاب سقوط الأندلس بدخول فرناندو الثاني ملك الإسبان مملكة غرناطة في 2 يناير 1492. يومها كان من شروط استسلام أبو عبدالله محمد الثاني عشر (1460 ـ 1527) المعروف باسم أبو عبدالله الصغير، أن يأمن الغرناطيون على أنفسهم وأموالهم ودينهم، ولكن بعد مرور 9 سنوات نكث فرناندو بالعهد وخيّر المسلمين بين اعتناق المسيحية أو مغادرة اسبانيا، وكانت تلك هي نهاية الأندلس، مسبوقة بما أطلق عليه “تنهيدة العربي الأخيرة” (el ?ltimo suspiro del Moro) التي أطلقها أبو عبدالله الصغير. وهو ملك عاش مظلوما، وانهزم مظلوما، ومات مظلوما. إذ كان ضحية الحاكمة الفعلية أمه عائشة الحرة، في صراعها السياسي والأنثوي مع ضرّتها الثريا، ثم ظلمه فرناندو وزوجته أيزابيلا، بإشاعة تعاونه مع الفرنجة في هزيمة بني قومه، ووضع صورته على شعار منطقة مالقة. لم يعتذر أحد لآخر ملوك الأندلس عن الظلم الذي لحق به، وظل بيت الشعر “لا تبك كالنساء ملكا مضاعا/ لم تحافظ عليه كالرجال” علامة على هوانه. ولولا كتابات، دوّنها أوروبيون مسيحيون، مثل لويس آراغون، وواشنطن إيرفينغ، وأنطونيو غالا (خصوصا في “المخطوط القرمزي”) لظل ذكره مع الخونة والمارقين. كذلك الأمر بالنسبة إلى مأساة التهجير الجماعي، فعلى الرغم من كل البحوث والدراسات يبقى “ليون الأفريقي” العمل الروائي التوثيقي للبناني (المسيحي أيضا) أمين معلوف، هو أهم وثيقة تدين الجاني وتنتصف للمظلوم. إن أسوأ ما تعرض له الحضور العربي في الأندلس هو النكران الثقافي. فالثروة المعرفية الهائلة التي تركها العرب وراءهم أصبحت غذاء لألسنة النار مثل مكتبة غرناطة ومكتبة جامع الحمراء، كما تم نقل مكتبات أخرى الى اللاتينية لتصبح قاعدة النهضة الاوروبية. وقد شكل مجمع الايمان الكاثوليكي جهازا تابعا لديوان التحقيق يضم مختصين باللغة العربية بهدف تجريم الذين توجد بحوزتهم مخطوطات عربية من المسيحيين الجدد. ربما لا يستحق كل هذا الذي جرى اعتذارا من الإسبان المعاصرين، بحسب رأي اليمينيين، وهو ما سبقهم إليه قساوسة وأحبار (وحاخامات أيضا) عندما منعوا الفاتيكان من تقديم اعتذاره.. لكن للاعتذاريات، حاليا وجوه أخرى وصيغ مفروضة، هي اعتذار الضحية من القاتل عن الدماء التي لوثت يديه. وليس أمام أحفاد الأندلسيين إلا أن يغنوا “تنهيدة العربي الأخيرة” مع (إل كابريرو) بلحن فلامنجو ـ بوليريا الحزين والتي تقول: “أشعر بأصفادك تمسك بي/كخطافات، كمخالب/تغرقني في ضفة الرماد والألم/ وأبقى أسير قيودك/في ليلتي الصامتة”. عادل علي adelk58@hotmail.com