يحتدم العقل في منطقتنا كما تحتدم الأشياء من حوله بتطورات أشبه بالفوضى، ما يجعل المتتبع يقع في شراك البلبلة الفكرية، كما يقع الكثيرون ممن ينضوون في خضم العراك أمام ما يسمى القيامة الذهنية.. وفي مثل هذه الظروف لا يتسنى للفكرة أي استقرار، كون الخارجين من أتون كبوات نفسية وثقافية يقعون تحت سطوة الانبهار براهن المرحلة، وكون المطالبين بالحرية كمن خرج لتوه من بئر عميقة يتوق إلى التنفس، ولكن الهواء الخارجي لا يبدو خالياً من الغبار ولا يبدو نقياً من حثالات علقت بهذا الهواء بفعل تراكم أسس بنية ثقافية مشوبة بأوزان ثقيلة من عتمة الليل الطويل، واحتقانات تؤدي في كثير من الأحيان إلى انتقام أعمى قد لا يخدم قضية المطالبين بالحرية، بقدر ما يؤدي إلى التفكيك الاجتماعي، الأمر الذي يتطلب سنوات عدة حتى تتم إعادة تأثيث العقل بما يلائم المتطلبات..
وما يجري في الساحة العربية لا ينذر بسرعة فائقة في إعادة الصياغة كون العقل لم يزل في حالة النشوء والارتقاء، بعد عقود من القيود التي تنبني على أسس معرفية سابقة، أولها الزعيم الأوحد الخارق الفريد العتيد المجيد، ما أدى إلى سيطرته وسطوته على العقل الجماعي وجعله أسيراً لذات جماعية مزدوجة.. مثال ذلك يظهر لدى المطالبين والمحتجين والمناهضين الذين تسطو على عقولهم ثورة التحرر، محاطة بذات غارقة في اللجوء إلى أنا أعلى مغايرة في الصورة.. مشابهة في المضمون .. نشهد ذلك في علاقة المحتجين بزعيمهم السابق وعدوهم اللاحق وانتمائهم إلى مرجعية جديدة، هي الفوضى بكل ما تحمل من معاني الانفلات والخروج عن نص الحرية ومطالبها الموضوعية.
فاليوم، المطالبون بالحرية لا ينأون بأنفسهم عن الانتقام، بل لا يستطيعون الانفكاك من هذه الأزمة، بل صار الانتقام هدفاً تشرعه قيادات، بناء على مفاهيم شابها اللغط واعتراها الشطط، وتبقى الأوطان رهينة لهذا الاندفاع المريع والمجازف بالمصير والتاريخ والسيادة، وحتماً هذا ما يجعل الخوف من أي احتجاج كالفزع من أي انفلات .. حيث لا يستطيع المحتجون الساعون إلى الحرية ترويض شيطان رغبة الانتقام، لا يستطيعون الانتصار للعقل، لأن ما يقود في الداخل أقوى من مساحة العقل وأشد سطوة ونفوذاً.. ولأن العقول في جلها ألبست لباس الفتاوى المشؤومة، فإنه من الصعب عصيان الفوضى والتحول إلى حالة الانسجام مع الذات .. ماذا بعد إذن؟ ما بعد الفوضى ستكون الفوضى الخلاقة وما بعدها استكمال الصورة بمجتمعات تستعيد ذاكرة القديم بلباس جديد شائه، وحتماً ما يجعل الندم على ما فات بداية التأنيب ثم الإحباط ثم الوقوع في حالة البكائيات المستديمة.


marafea@emi.ae