مسكين تشارلز داروين، فقد أفنى ذهنه وعمره، وهو يجمع البراهين العلمية لكي يؤكد نظريته بأن أصل الإنسان قرد.. وما كان عليه إلا أن ينظر حوله، فيعفي نفسه من البحث والتحليل. تختصر نظرية داروين ( 12 فبراير 1809 ـ 19 أبريل 1882)، عن النشوء والارتقاء التي تضمنها كتابه “أصل الأنواع” بالفكرة التبسيطية التي تنسب الإنسان إلى سلالة الشمبانزي، وهي فكرة كان ينبغي أن تسقط منذ شهور مع إعلان فريق من علماء جامعتي “كين ستيت” و”كاليفورنيا” الأميركيتين، بأن أقدم أثر معروف للبشر، هو هيكل عظمي إثيوبي يبلغ عمره 4.4 مليون سنة أطلق عليه اسم “أردي”.. أي ببساطة، فإن القرد أصله إنسان وليس العكس. لكن هذا الاكتشاف لم يؤثر على القيمة العلمية (والفكرية) لعالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي، إذ تحتفل معاهد وجامعات مرموقة بالذكرى المئوية الثانية لولادته، فتعيد تسليط الضوء على أثره العلمي بتعميماته وتبسيطاته، مع تجنب الإشارة إلى مقترحاته الجهنمية على الفكر الغربي، مع وضع ثلاثة خطوط تحت عبارة الغربي. كان من الطبيعي أن تتصادم نظرية داروين مع النص الديني، بتحديها لفكرة الخلق الإلهي، لكن بعد قرنين على ظهورها، بقي الرفض الإسلامي لها مع تجاهل وغموض يحيط بموقف اللاهوت المسيحي (الأوروبي) منها. فأطروحة “الانتخاب الطبيعي”، التي عرضها للمرة الأولى عام 1859، من أجل “صون الأعراق المميزة في الصراع من أجل البقاء” سرعان ما غدت إنجيلا لأنصاره الذين رفعوا شعار “بقاء الأفضل”، وأرسوا البنيان الفكري المسوّغ لهيمنة العرق الأبيض، مستمدين من معلمهم مقولته العنصرية بأن الأصناف التي تصمد ليست هي الأقوى أو الأذكى “بل هي تلك التي تتكيف بشكل أفضل مع التغيير”. وهنا تدخل “النظرية القردية” الداروينية، فغالبية البشر يتسلسلون بحسب قربهم من أصلهم الحيواني فيتدرجون في ست عشرة مرتبة، ويأتي الزنوج، ثم الهنود، ثم الماويون، ثم العرب في أسفل السلسلة، والآريون في المرتبة العاشرة، بينما يمثل الأوروبيون (البيض) أعلى المراتب وهي الخامسة عشرة والسادسة عشرة، وتبقى هناك حلقة مفقودة بين القرد والإنسان. وجد الأوروبيون الداروينيون بهذا الأساس “العلمي” قاعدة متينة لفكرهم السياسي وسلوكهم الاستعماري. فالتفوق العرقي يعطيهم الحق الطبيعي في الهيمنة والاستغلال وممارسة قسوة تصل إلى حد الإبادة. وقد أقام الأوروبي “حقولا تطبيقية” لتلك النظرية بين المراتب الدنيا بحسب التصنيف الدارويني. أي بين الهنود الحمر والزنوج وقبائل الماويين والأعراق الآسيوية (الوضيعة) في الفلبين والهند وبلاد العرب. وفي التاريخ الاستعماري، القديم والمعاصر، أدلة حيوية على حضور الداروينية كموجّه أساسي للعرق المتفوّق. هل يكفي صعود النازية ومحاولتها احتلال أماكن المراتب الأولى وسقوطها حتى لا تسقط تلك المراتب؟ هل تكفي الدلالات الرمزية المستمدة من صور التعذيب في سجن أبوغريب؟ هل تكفي جهنمية التفكير الصهيوني بصناعة قنبلة بيولوجية تقتل البشر بحسب انتماءاتهم العرقية؟ وأخيرا، هل كان تشارلز داروين مجرد عالم مجد وهو يضع أسس “إمبريالية علمية” حكمت العالم طيلة قرنين؟ عادل علي adelk58@hotmail.com