في صبيحة يوم خريفي، اندفع أناس كثيرون، مدينة بحالها، شعب بكامله، صوب حائط انتصب بين ظهرانيهم كوجع بليغ. راحوا يهدمونه بالمطارق، وعذابات السنين، لكي يشيدوا مكانه ملحمة إنسانية ووطنية يختمون بها القرن العشرين. فعل سكان برلين ذلك، صبيحة 9 نوفمبر 1989، فيما كان الرفيق إريك هونيكر الأمين العام للحزب الشيوعي في ألمانيا الديمقراطية وأعضاء المكتب السياسي وبقية الأجهزة الحزبية والأمنية، يلملمون حوائجهم لمواجهة المصير. في تلك الصبيحة، انتهت حقبة من التاريخ المعاصر كان أطلقها قبل أكثر من قرن، ألماني شغلته الأفكار الفلسفية المجردة في تطبيقاتها الإنسانية والمجتمعية. أراد كارل ماركس (5 مايو 1818ـ 14 مارس 1883) من خلال نقده للرأسمالية ودعوته لمجتمع اشتراكي قاعدته البروليتاريا، أن يماهي بين مجردات الفكر والنظرية واحتياجات العيش لملايين البشر، مع أرجحية لصالح الأولى. ووفقاً لهذه الاعتبارات فقد أقصيت عن القاموس الماركسي، وبشكل اعتباطي أحياناً وقهري دائماً، مصطلحات مثل حق الفرد، والحرية، واحتياجات الإنسان الروحية، والدين، والانتماء العائلي فما فوق، والشعور الوطني والقومي.. ناهيك عن الديمقراطية واشتراطاتها التمثيلية والانتخابية. أخذ تبجيل الأيديولوجية، في المجتمعات التي اعتنقت الشيوعية، معنى أشدّ حضوراً من سلطة الدين بأوامره ونواهيه. أصبحت الأيديولوجية بمثابة “الريموت كونترول” يتحكم بحركة الناس والمجتمعات في مسار تطورها الطبيعي، وقضاياها الكبرى: اختلف الشيوعيون العرب في خمسينيات القرن الماضي، حول القومية العربية ومسألة الوحدة، هل هي معطى تاريخي وجغرافي وسياسي أم ظاهرة برجوازية؟ كان لا بد من العودة إلى أساتذة النظرية السوفيات لاستفتائهم، فجاء جوابهم المدين للفكرة القومية الملوثة.. مرة ثانية، وقف الأساتذة الأيديولوجيون في موسكو ضد منطق الأمور. كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، حينما أفتوا بضرورة وقف أبحاث تطوير الجيل الثالث من أجهزة الكومبيوتر، لأن هذا العقل الإلكتروني يفصح عن إمكانيات تتجاوز محددات الجدلية المادية والحتمية التاريخية. توقفت الأبحاث ريثما يتم إيجاد “صيغة فكرية” توائم بين التطور العلمي والجمود النظري.. وحينما أراد السوفيات استئناف أبحاثهم، كانت “الرأسمالية الغربية المتوحشة” المتمثلة في أميركا وأوروبا واليابان، قد توصلت إلى السوبر كومبيوتر. لذلك، فإن هدم جدار برلين واختراقه، قبل عشرين سنة من الآن، وبعد ستين سنة من قيام الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي، مثّل الحدث الرمز في سلسلة من عمليات الهدم (أو الانهدام) التي أصابت الجدار الأكبر المسمى “السور الحديدي” الذي أحاط به الاتحاد السوفياتي نفسه ومعسكره. لقد سقط الاتحاد السوفياتي، ومعه الأيديولوجية التي سوّغت قيامه، بفعل مجموعة من العوامل، فكرية ومادية، ولذلك فإن موته بدا وكأنه جرى بثلاث طرق في آن واحد: موت سريري بفعل اعتلال مزمن، وسكتة دماغية مفاجئة، ورصاصة في القلب.. لكن سقوط جدار برلين، لم يمثل حتى الآن سقوطاً لفكرة الجدار في العالم. منذ البدء بإنشاء سور الصين العظيم (221 ق. م.) إلى إنشاء جدار العزل الإسرائيلي في الضفة الغربية، وما بينهما من جدران وأسوار قسّمت المدن والشعوب وعزلت الأفكار والتطلعات.. ووحده، ظل مارسيل خليفة يغني بلسان محمود درويش: صامدون هنا، خلف هذا الجدار الأخير.. عادل علي adelk58@hotmail.com