برجاء حار، فلنغن معاً، ونطرد الشيطان بتعويذة، قالها الطير يوماً وهو يقف فوق غصن أجرد، ولم يمنع رؤيته الآخر ورق، ولا أرق، بل كان وحيداً بين الرفرفة والتحليق، يسكب بوحه في الوجود بأريحية وعفوية ونقاء من غير علامات مضببة، في شارعه الكوني الفسيح.
الغناء مثل الموجة، تنظف سواحل القلب، وتوشوش للمحارات، كي تصحو باكراً، وتذهب إلى الماء، قبل أن يجف الرمل.
الغناء مثل الحلم يعيد ترتيب مشاعرنا، بعد أن بعثرها الكبت، وسامها الحزن المتوارث، سوء العذاب.
الغناء مثل النسمة، تزيح عن وجوهنا الغبار، وتملأ الجعبة صفاء، وتنبت وريقات الأمل في تربة القلب.
الغناء والحب، شيئان لا يقاومان، وإن فعلنا عكس ذلك، فنحن نخالف طبيعتنا، ونمضي بأعمارنا نحو فم الوادي الذي يأخذنا إلى مكان في الوعورة، فلا ننهض ولا ننام، نظل هكذا مثل السعفة في وجه الريح.
الغناء مثل قلب امرأة جميلة، عندما يصفو، تبدو الحياة مثل النهر، ونبدو نحن مثل الأشجار، نرتوي فتسمق جذوعنا، وتورق أغصاننا، وتتورد ثمراتنا.
ولو تخيلنا أن العالم اتخذ عهداً على نفسه، وقرر أن يغني، ولم يبق بيت، أو زقاق، أو حي، أو قرية، أو مدينة إلا ورفعت فيها الأغنيات، واشتعلت عناقيد الأوتار الصوتية بأغاني الفرح، وشاعت بين الناس فكرة، «أن من لا يغني لن تكتب له جنة الحياة».
مجرد فكرة، لو جسدت على تراب البشر، لانتهت الحروب، وتلاشى الفقر، وماتت الأمية في أحضان كتب الفرح، وفُني الحقد، وذهبت الطائفية، والإثنية، والعرقية إلى الجحيم، منذ أن تصورنا أن الغناء فاحشة المنحرفين، ونحن نعاني مأساة وجودنا الخاوي من المعنى، ونتجرع حزن الفراغ اللامتناهي، ونقاسي محنة الورم الخبيث الذي اسمه «الفقدان التاريخي».
قلوبنا تنبض منذ الأزل، وهي لا تجد الصدى في نفوسنا، والطير يغني، ولا يجد غير تهكم الضفادع، وهي تنق، وتهق، ولا جدوى من الصداح إذا ناح، ورفع الهديل لأجل أن تبقى الأشجار واقفة، ولأجل أن تظل الكلمات لها معنى، والقصيدة مزدانة بعذب البوح، ونزاهة المنطق.
في الأغنيات.. لهج ومهج، تفتح للأفق مدى أوسع، كي يحضر الوعي، ويوسع الإدراك من جيب قماشته، لعلنا نخرج من سوء النية، ونصدق، فالوجود هو صدق في الموقف، وحسن نية في تعاملنا مع الحياة.