نادرا ما رأيت حالات أصالة تقترب من أصالة إدوارد سعيد الذي سوف يظل قامة رفيعة في مجال النقد الأدبي تنظيرا وتطبيقا. لقد سبق لي الكتابة عنه، ولكن حسبي أن أشير- في هذا السياق - إلى تأثره بأفكار ميشيل فوكو، وتطويرها في كتاباته، على نحو يؤكد دلالات “الأصالة” التي كتب عنها في كتابه “العالم والنص والناقد”، حيث يعرض لأفكار كل من فوكو وديريدا، ولكنه ينحاز إلى فوكو، ويصنع من تأثره به بعض ما يسهم في تأسيس أفكاره الخاصة عن العالم من ناحية أولى، وعن النص من ناحية ثانية، وعن علاقة الناقد بكليهما من ناحية أخيرة. وهو تأسيس نراه في قراءة نقد النقد في الكتاب، حيث توجد أعمق قراءة أعرفها لكتاب “المحاكاة” الذي كتبه أويرباخ في إسطنبول في أثناء الحرب العالمية الثانية، في موازاة قراءته التطبيقات لجوناثان سويفت مؤلف “رحلات جاليفر”. والحق أن تأسيس إدوارد سعيد لرؤيته النقدية لم يجعل له مكانة استثنائية بوصفه ناقدا، محسوبا على اليسار الأمريكى فحسب، وإنما جعل له مكانة بارزة في خطاب ما بعد الاستعمار، أو نقض الخطاب الاستعماري إذا شئنا الدقة، وهو الأمر الذي رأيناه فيما كتبه عن “الاستشراق”، و”تغطية الإسلام”، و”الثقافة والإمبريالية” وغيرها من كتبه الأساسية. حسبي الإشارة إلى أنه لم ينس هويته الفلسطينية ولا تراثه العربي؛ فأصدر كتابه عن مسألة فلسطين، وذلك في موازاة إفادته من فهم اللغة من منظور المذهب “الظاهري” في علم اللغة، واستغلاله أفكار ابن جني وابن مضاء القرطبي صاحب الرد على النحاة، وذلك في صياغة تصوره الخاص عن اللغة، في الفصل الذي كتبه عن “العالم والنص والناقد” في الكتاب الذي يحمل هذا العنوان. ولذلك يلاحظ القارئ الخبير لهذا الفصل السلاسة التي يجمع فيها إدوارد سعيد بين ميراثه العربي ممثلا في أفكار الظاهرية كابن جني وابن مضاء القرطبي، جنبا إلى جنب أفكار فيكو وفوكو ولوكاش وغيرهم من مفكري الغرب، وذلك في نسيج فكرى يحيل التجاور إلى تفاعل يصنعه فكر جدلي يقيم كليات جديدة. ولذلك فكتاب “العالم والنص والناقد” من أهم كتبه التي يكشف فيها عن رؤيته النقدية في الفصل التمهيدي الذي يحمل عنوان “النقد المدني”. وهو النقد الذي يناهض الأصولية والقمع وانغلاق النظرية على نفسها بما يحيلها إلى دوجما. وهو النقد الذي لا يفارق الحرية في معانيها السياسية والاجتماعية والثقافية، مدافعا عن حقوق الإنسان رافعا لواءها في كل مكان، والكاشف عن قمع “السلطة”- كل سلطة تحول بين حرية الفرد أو الجماعة. يضاف إلى ذلك أن النقد المدني هو النقد الذي يكتب في العالم، شأنه في ذلك شأن الأعمال الأدبية والإبداعية بعامة، ولكن من أجل العالم، وتحرير أفراده من شروط الضرورة، بإبداع الكلمة في حالة الأدب، وبالكتابة عن الأدب بما يجسد رؤاه المدنية الملازمة لقيمة الحرية التي لا تفارق بعدها الإنساني في حالة النقد.