الحضارة الغربية من أكثر الحضارات احتفاءً وتقديراً للموسيقى لدرجة رفعها إلى ما يشبه المقدس، بإعطائها الذروة الروحيّة والوجدانيّة بين الفنون الأخرى· هكذا منذ أفلاطون الذي كان يعتبر الموسيقى بلسماً وعلاجاً حين تعصف به الأمراض والأزمات·· نزهة روحيّة بين ضفاف الجمال والأبديّة·· وحتى (شوبنهور) الذي بوَّأها المكانة الأسمى رغم تجريديتها البالغة، كونها تمثل حقيقة الوجود في كافة تجلياته، تجسد ''الإرادة كما تتجلى في الوجود عبر سائر سكناتها وحركاتها''·· وهكذا معظم الفلاسفة والفنانين على امتداد الإرث الحضاري الكبير··· البارحة، كان (عيد الموسيقى العالمي) في باريس حيث كنت موجوداً، غصت الشوارع والأزقة والساحات الشاسعة الجميلة بحشود البشر، العازفين والمتحمسين والمتفرجين، حشود ضخمة، هدير وقصف وضوضاء، لا حدود لرعبها وفظاظتها، تسمى موسيقى، تحتفي تحت هذه اللافتة بعيد الموسيقى، اختلط الحابل بالنابل في هستيريا جماعيّة من الصراخ والإزعاج وخراب الذوق· ولم يعد للفرد إلا أن يلوذ بغرفة الفندق، لكن أين منه الهدوء في هذا الكرنفال الذي يخترق صخبه أعتى الجدران والخرسانات؟ ليلة من الحزن والأرق واللعنات، هذا ما يخلفه هذا العيد العالمي، بعد أن انحطت الموسيقى، ونزلت من مكانتها تلك إلى هذا الدَرْك من العنف والابتذال·· بقيت هناك بضع حفلات خاصة مميزة مثل حفلة الأوبرا في حديقة (اللكسومبورج) وحفلات أخرى لها علاقة بروح الموسيقى العظيمة وقد سبقت هذا اليوم الخاص ببضعة أيام لتترك الساحة كاملة لاحتلال الموسيقى الغوغائية، وهي الكلمة الأكثر تعبيراً، إذ إن هذا النوع من ''الموسيقى'' ليس لا علاقة له بتراث الموسيقى السامية والرفيعة فقط، وإنما لا يمت بصلة إلى الموسيقات الشعبية والتراثيّة التي تتجلى فيها أنواع أخرى من الإبداع الروحي والعاطفي· ما يحصل من انحطاط موسيقي على الصعيد الأوروبي، ينسحب بالضرورة على سائر البشر الآخرين، وبشكل أكثر قبحاً وفجاجة مثل الموسيقى العربيّة التي انسلخت كليا عن تراثها وإنجازاتها الحديثة، والقديمة، ودخلت عصر الغوغاء والغرائز الرخيصة بكامل عدتها وعتادها·· وإذا كان في الغرب الاوروبي مؤسسات وأفراد ما زالوا يكافحون لحفظ روح الموسيقى الحقيقية ومكانتها الخلاقة، فمثل هذه المكانة تبدو أنها أفَلَتْ على الأرض العربيّة عدا القليل القليل الذي لا يكاد يذكر في هذا الخضم المتلاطم من الانحدار الشامل·