كان الاحتفاء باللغة العريية في يوم خاص بها مناسبةً للتفكير بما طرأ عليها من تبدلات بسبب تعدد الخطابات اللغوية العربية، وانعكاسها على النصوص المتنوعة: خبرية أوإنشائية. وأجد أن (العنف) في الاستخدام اللغوي المعاصر جدير بالتأمل بعد أن أصبح ظاهرة بارزة في الأدب والإعلام خاصة. فقد تم تسييس اللغة لخدمة البرامج والمشروعات المختلفة لمستخدميها. وبجانب ذلك اتضحت المشاركة في الحوار الإقصائي ومحو الآخر، وفي الدعوة للتراجع حضارياً عبر سن القوانين الملبية للأعراف التقليدية، لاسيما ما يخص التربية والموقف من المرأة والحريات العامة والمساواة في الحقوق والواجبات. ولكن العنف هو من أكثر المزايا بروزاً في الخطاب اللغوي، وفي النصوص أيضاً. وكنتُ في استطرادات سابقة قد توقفتُ لغرض التمثيل لذلك بما يتحصل من دلالة في تصريحات أحد الذين وُصفوا بالجهادية السلفية حول الأهرام، وضرورة إزالتها و(تحطيمها)، لأنها - كما يقول - أوثان وأصنام تُعبد من دون الله، ويقول متحدثاً بضمير الجماعة: (إننا مكلّفون بتحطيمها كما فعلنا بأفغانستان وحطّمنا تماثيل بوذا). وسوف نتجاوز العدوانية والكراهية لرموز الحضارة والثقافة والتراث في النص السلفي السابق، ونتأمل طبيعة الخطاب المتعصب الذي نجد له تشكلات كلامية ونصيّة في العديد من الأنشطة الحياتية، وكيفية استغلال العنف اللغويٍ، ليوازي الدعوة السلفية كفعل وممارسة في الضد من الفن والجمال والعاطفة والخيال، والتعبير عن الذات خارج المنظومة التقليدية، فالفعل المستخدم في تركيب العبارة هو (التحطيم) بما ينطوي عليه من دلالة على العنف المضمر في اللاشعور إزاء المنجز الحضاري البشري، الذي تمثّل الأهرام واحدة من اكثر مظاهره دلالة على البراعة والجمالية الفنية التي يحملها الهرم كبناء ورمز. والعنف اللغوي يظهر كثيراً في التداول اليومي والإجراء الكلامي، وهذا موضع خطورة تمس الشعور والتداول بين البشر، لأن العنف يتسلل من اللغة كمجموعة من المفردات إلى الكلام نفسه، أي الاتصال والتعبير بين مستخدمي اللغة، ومثال ذلك ما يشيع في الأدبيات الغزلية العربية- في الشعر خاصة - حيث تتحول المغازلة إلى مقتلة حقيقية فيها جناة وضحايا، قتلة وقتلى، حتى أن النقاد القدامى عدّوا بيت جرير: إنّ العيونَ التي في طرْفها حورٌ/ قتلْننا ثم لم يحيينَ قتلانا أغزل بيت قالته العرب! وفي التداول الكلامي يصبح الموت مفردةً قاسيةً وحدثا لغوياً عنيفاً، حين يقول العاشق إنه (يموت على) حبيبته، وربما استُخدِم الموت للتعبير عن الرغبة الشديدة في الشيء، أو الانفعال بسماع طرائف (تُميت أو تُهلك) سامعَها ضحكاً! وهنا يغتال العنف اللغوي مشاعر المتكلمين، وعواطفهم ويسمها بالحدة والشراسة. ويمتد العنف اللغوي إلى الإعلام ولغته، فيصبح خسران فريق رياضي مثلاً (هزيمةً) أو (سحْقاً) له من قبل خصمه! لقد استجابت اللغة للعنف الكامن في النفوس، وقدمتْ معادلاً لغوياً للشعور والعاطفة في لحظة حرجة وحادة في حياة مستخدمي اللغة والمفردة، بعنفٍ لا تخفى هيجاناته وقسوته.