كان ميجل دي سرفانتيس (1547 ـ 1616)، فيما يقال، رجلاً يهوَى التشرُّدَ والمغامرة والضَّرْبَ في الأرض، فكان لا يزال يتسكّع بين المدن والأقطار، وبعد أن جرّب ممارسةَ كثيرٍ من الْمِهن، دُفِع يوما إلى البابا الأعظم في روما فامتهن مهنة دينيّةً يساعده من خلالها. كما جرّب الرجل المغامرُ نفسَه، بعد ذلك، في الخدمة العسكريّة أيضاً مرتزِقاًً، فشارك في معارك بحريّة طاحنة في الشرق الساحر، فأصيب بجروح خطيرة في معركة مَضيق ليپَانْتي على الباخرة “ماركيزا” الإسبانيّة أفضت إلى قَطْع ذراعِه اليسرى. غير أنّ ذلك لم يحمِلْه على التخلّي عن الارتزاق في الجيش الإسبانيّ، فشارك في معارك بحريّة أخرى، انتهتْ إحداها، وهي التي وقعت بين الأسطول الجزائريّ والأسطول الإسبانيّ بأسْرِهِ، وهو الأديب المحارِب! فسِيقَ إلى مدينة الجزائر، حيث قضّى فيها خمسَ سنواتٍ من الأسْر إلاّ شهراً واحداً (1575 ـ 1580). لكنْ فُكَّ أَسْرُهُ في صفْقَةِ فِدْيةٍ شملتْ كلّ الأُسرى الإسبان في الجزائر. ولم يكن أحدٌ من معارف الأديب، ذي الذراع البتراء، وأصدقائه، ولا هو شخصيّاً، أثناء ذلك، يعرف أنّ سرفانتيس سيُصبح كاتباًً عظيماً، عالَمِيَّ الصِّيتِ. وعلى الرغم من أنّه كان يكتب بعض المحاولات المسرحيّة خصوصاً قبل وقوعه في الأسر، إلاّ أنّ أحداً لم يكن يعتقد أنّه سيكتب رائعته “دون كيشوط” التي خلُد بها حيث نشرت المكتبة الوطنية بباريس سنة 1937 إحصاءً ذكرَتْ فيه أنّ رواية “دون كيشوط” قد طُبِعتْ 1369 طبْعةً، منها 431 طبعة باللغة الإسبانية الأصليّة، و285 طبعة باللغة الفرنسيّة، و241 بالإنجليزيّة... كان الأديبُ، ذو الذراع البتراء، خفيف شعر اللحية، أشقرَ السَّحنة، طويل الوجه، حادّ النظر، يتوقّد ذكاءً... واستمرّ الأديب العظيمُ، ذو الذِّراعِ البتراءِ، في كتابة محاولاتٍ أدبيّة بسيطة كان يصفُ فيها حاله في الأسْر وما عانى فيه، طَوالَ خمسِ سنواتٍ إلاّ شهراً، مما يعانيه، في دأب العادة، كلُّ أسير مثلِه. وأوّل ما يمثُل من هذه المعاناة فِراقُ الأهلِ والأحبّة وفِقْدانُ الحريّة الشخصيّة، فلا فرْقَ بين الأسْر والسجن على مَن مُنِيَ بهما. وكانت تلك الكتابات في أوّل أمرها، كمعظم بدايات الأشياء، بسيطةً لا ترقَى إلى أكثرَ مِن كتابة اليوميّات العاديّة التي يمارسُها بعضُ السَّفَرَةِ الهواة. ولم تكن تَشِي بأنّ الذي يكتب تلك المحاولات البسيطة، وربما الرَّكيكة المتعثّرة، سيكون هو صاحبَ “دون كيشوط”!... ونجد الأوروبيين حين يترجمون لسرفانتيس يمرّون مرّاً خاطفاً بحياته في الأسر لمدة خمس سنوات بالجزائر. ونحن نفترض أن سرفانتيس تعلّم اللّغة العربيّة من خلال تعامله مع حرّاسه، وقرأ كتاب ألف ليلة وليلة في لغته الأصليّة، فأخصب الخيالُ الشرقيّ العظيم موهبتَه وخياله فكتب ما كتب. يضاف إلى ذلك أنّ تلك المعاناة في الأسر لا ريب في أنها أسهمتْ في صقْل موهبته الأدبيّة صقلاً عظيماً. ومن مسرحيّاته مسرحيّة “الإسباني المغامر” التي يتناول فيها تجربته في الجزائر. كما أنّ معظم كتاباته الأدبيّة التي ظهرت بعد الأسر، وهي الأهمّ والأروع، لم يَعْدَمْ فيها ذِكْراً لمدينتي الجزائر ووهران.