قال لي صديقي فجأةً، وهو يمدّ يده إلى السمكة الشهيّة الملقاة في صحنه، ويرفعها إلى فمه، هل تعتقد بأنّ الإنسان بحاجة حقاً إلى الشعر، ما دام لديه سمك ونبيذ، بحر وسماء ونساء، قطارات للسفر، وشوارع للتسكّع، تبغ وأفيون؟ وكأنما فاجأني بسؤاله الطريف، فسكتّ مدةً طويلة، ولم أجبْ. ولاحظ ارتباكي فقال ضاحكاً: حسناً. إذا كنت تعتقد بضرورة الشعر وجدواه، فلماذا لا تضع أمامك الآن، قصيدة من قصائدك العصماء، وتأكلها... تاركاً لي حصتك من هذا السمك اللذيذ، فأنا أرضى بسمكة البحر دون بحر القصيدة. ولأنّ فكرة صديقي جاءت طريفة ومفاجئة، فقد اكتفيت من الإجابة بالابتسام. إلاّ أنه ألحّ عليّ في سؤاله، وأضاف بعفويّة بالغة: الشعر.. هه؟ إنه خدعة المحرومين. الشعر لا شيء يا صديقي. إنه مثل حشيشة الكيف. قلت: اسمعْ أيها النديم. هل ترى إلى هذه السمكة التي بين يديك الآن؟ قال: نعم، أراها. قلت: هذه السمكة التي تأكلها أنت وتشبع بها، كانت قد أكلتْ هي بدورها سمكة أصغر منها وشبعت. أليس كذلك؟ قال: نعم. وماذا في هذا الأمر من الشعر؟ قلت: ولكنك أنت، بعد شبعك، تتأمّل وتحلم. أما هي فلا. وأضفت: الشعر يأتي بعد الشبع والارتواء. إنه الفائض عن كفايات الجَسَد. قال لي: ومن أخبرك أنه ليس للسمكة أشواق؟ ومَنْ قال إنّ فائض كفايات الجسد هو الشعر؟ لماذا لا يكون القتل مثلاً؟ قلت له ضاحكاً: إذا كان للسمكة أشواق، على ما تفترض، فهي بلا ريب شاعرة. أكثر شعراً منك على الأقلّ. وإذا لم يكن فائض كفايات الجسد هو الشعر، فإنه الموت على الأرجح. قال: كيف ذلك؟ قلت: أساس حياة الإنسان الرغبة. فليس ثمةّ من كائن بشريّ بلا رغبات. فإذا جاعت الرغبات ستكون أشعار، وإذا ارتوت الرغبات، سيكون أشعار. قال: في الأمر ما هو صعب ومحيّر. فكيف؟ قلت: إذا جاعت الرغبات، سيكون الشعر بديلاً عنها. وإذا ارتوت الرغبات سيكون الشعر بديلاً عن الموت. قال: لماذا؟ قلت: لأن الإنسان الذي ترتوي رغباته، يميل إلى الانتحار. قال: أو يميل إلى الشعر. قلت له: حَسَناً. ما دمت أنت تقول ذلك. فلنبدأ الحوار من جديد.