لم يتعمق في ذهن القارئ العربي بعد الفارق بين رواية جماهيرية واسعة الانتشار استثنائية التوزيع والرواية الفنية التي قد لا تكون واسعة الانتشار مع أنها أعلى في سلم القيمة الجمالية والفكرية، والفارق بين هذين النوعين يشبه الفارق بين رواية دان براون «شفرة دافنشي» ورواية إمبرتو إيكو «اسم الوردة». وقد تفوقت «شفرة دافنشي» تفوقا مذهلا على «اسم الوردة» سواء في أرقام التوزيع والضجة التي أثارتها على امتداد الكرة الأرضية والفضول الذي دفع ملايين القراء إلى شرائها والاهتمام الإعلامي الذي لا مثيل له، وسرعان ما أصبحت فيلما ذائعا، منع عرضه في كثير من الأقطار نتيجة لاحتجاج الكنيسة. فالرواية تقوم على حبكة بوليسية تتصل بأحد أركان العقيدة المسيحية، معتمدة على معرفة مذهلة بالقطع، سواء بتاريخ الديانات وتفسير رموز عقائدها، وذلك على نحو مغاير لما استقرت عليه معتقدات وأعمدة العقيدة الكاثوليكية على وجه التخصيص. وقد دفعت الرواية البعض للرد عليها، والبعض الآخر لتفسير رموزها، فظهر كتاب من مثل «فك شفرة دافنشي» أو شرحها، وغيره كثير. وقد أحدثت رواية «اسم الوردة» قبل «شفرة دافنشي» أصداء عالمية، وترجمت إلى العديد من اللغات، وسرعان ما تلقفتها هوليوود وأخرجتها فيلما بديعا من بطولة شون كونري، وكلتا الروايتين تقوم على حبكة بوليسية، والتشويق يلعب دورا كبيرا فيهما، ولكن ما أبعد الفارق بين الاثنتين. «شفرة دافنشي» تمثل الرواية التجارية ذائعة الانتشار التي جذبت الانتباه، ودفعت واحدا مثلي إلى السهر لقراءتها حتى الصباح، وقد جلبت الرواية لصاحبها من الثراء ما لم يتوقعه، ومن الشهرة ما يفوق خياله، وأعادت تسليط الضوء على رواياته السابقة، ثلاث أو أربع روايات، لم يكن أحد يهتم بها، ولكن الإقبال زاد على شرائها، بفضل «شفرة دافنشي»، وأنا شخصيا قرأت ثلاثا من هذه الروايات فلم أجد فيها من براعة الصنعة، ولذعة التوابل الموجودة في «شفرة دافنشي» التي لا تزال بيضة الديك الذهبية التي أورثت صاحبها من الشهرة ما لم يصل إليه روائي آخر، فكانت من أنجح الروايات التجارية وأكثرها اقترابا من، لا دخولا في، دائرة الفن. أما «اسم الوردة» فتبقى درة فنية فريدة في تاريخ الفن القصصي، سواء في عمق تصوير الأبطال وتعدد أبعاد الرمز المركزي الذي تدور حوله، واستخدام المعرفة التاريخية المذهلة عن الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى، وتعدد مستويات السرد، والدخول من الخاص إلى العام، والخلط الرهيف المتعمد بين البسمة والدمعة، وبين السخرية والنقد المضمر، والمزج الذي يقوم على المجاورة بين حقيقة المجادلات اللاهوتية ومجازية الدلالة التي لا تفارق السر الذي نكتشفه في نهاية جرائم القتل المتكررة في الدير المعزول، المنغلق على نفسه مثل المعتقدات المنغلقة على نفسها فتنتهي إلى التعصب المقيت الذي يفضي إلى القتل، براعة الحوار، منطقية الأحداث.. كل هذا وغيره في رواية «اسم الوردة» لعالم السميوطيقا الأشهر، عبر الكرة الأرضية وما كان أمتع لقائنا به وحواري معه حول بنية الثنائيات الضدية، عندما اختلينا به في جلسة هادئة في مكتبة الإسكندرية ولا أظن الرجل قد سمع جديدا عندما قلت له إن روايته «اسم الوردة» الذي كتب غيرها فيما بعد حفرت لنفسها مكانا بأحرف من نور في تاريخ الرواية العالمية.