لي صديق طيب كطفل. تراه فتظن أنه حصن روحه وجسده من كل ما يمكن أن يفسد الروح والجسد، فأدرك البراءة أو أدركته البراءة. وكثيراً ما كنت أسأل نفسي عن سبب براءة هذا الصديق، وأقول مغتبطاً: ها هو أخيراً فتى نقي مازال يعيش في هذه المدينة الفاسدة. وسألت نفسي: لماذا؟ وأجبت: لعله نقي لأنه شاعر. وقد فاجأني في منتصف الليل الفائت هاتفاً: ـ آلو. مساء الخير. أنا فلان. هل أزعجتُكَ في هذا الوقت من الليل؟ ـ قليلاً. طمني، وكيف تسير أحوالك؟ ـ أحوالي؟ أحوالي صعبة. أنا أتكلم معك الآن لأخبرك أنني قررت الانتحار. ـ الانتحار قرار خطير. هل أنت جاد في قرارك؟ ـ كل الجد. سأنفذ قراري الآن. ـ أنا أعرف أنك جاد، ولكن، ميّل علينا في صباح الغد، فإن لدينا رسالة نريد أن نرسلها معك إلى من هم هناك. قال: ولكني أريد الليلة أن أنتحر. قلت: أجّل هذا الأمر إلى الغد، فالرسالة التي ستحملها معك مهمة على ما أعتقد. 2 في صباح اليوم التالي، جاءني صديقي الشاعر باكراً. كان حليق الذقن، نظيف الثياب، وعلى قرار خطير لاشك فيه.. ينضح قراره من الحزن الذي في عينيه. قال لي بعد التحية: جئت آخذ الرسالة. قلت له: حسناً.. هاك الرسالة.. وناولته مغلفاً فيه ورقة مطوية، أخذ الرسالة، ووضعها في جيبه، ثم قام مودعاً. قلت له: إلى أين؟ قال: إلى حيث أرسلت معي الرسالة. إلى الانتحار. وأكمل كلامه دون أن أسأله شيئاً عن حاله: الحياة صعبة. أنا إنسان وحيد. كل شيء فاسد على الأرض. لا معنى للحياة. قلت له وهو مسترسل في شكواه: هل تعرف لماذا أَجَّل شهريار قتل شهرزاد ألف ليلة وليلة؟ قال: لماذا؟ قلت: لأنها كانت في كل ليلة تروي له قصة جديدة. قال: وما صلة هذه القصة بانتحاري؟ قلت: أنت شهريار وقصيدتك شهرزاد. هل فهمت؟ قال: أظنك تعني أن الشعر هو.. قلت: أَجَلْ.. هو الخلاص. قال: كنت قد بدأت كتابة قصيدة أصف فيها رحلتي الأخيرة وأتخيّل الأمكنة التي سأذهب إليها بعد الموت. ولكنني أوقفتها، لأنني فكرت في لا جدوى كل شيء بعد الموت. قلت له: أكملها يا صديقي أكملها. وحين ستولد القصيدة ستعيش شهرزاد فيك ليلة إضافية. قال: ولكنْ، مَنْ سيوصل رسالتك إلى هناك؟ قلت: رسالتي يا صديقي لن تصل حتى ولو حملتها إلى هناك. رسالتي هي ورقة بيضاء.