عندما أصدرت كتابى «زمن الرواية» في التسعينيات وجد الكتاب أصداء واسعة، وما أكثر الذين كتبوا عنه مؤيدين ورافضين. وأظن أن أغلب الذين رفضوا الكتاب كانوا من الشعراء أو من الذين تعودوا على أن الشعر ديوان العرب القدماء والمحدثين وفنهم الأول. ولقد لاحظت أن الأمر لم يعد كذلك منذ التسعينيات، خصوصاً بعد أن لاحظت أن الخريطة العربية أخذت في الاتساع، ولم تعد تترك قطراً عربياً واحداً. في البداية؛ خلال القرن التاسع عشر كان الإرهاص الذى جعل الرواية، أو شبه الرواية، تولد في مصر والشام، ولكنها سرعان ما زحفت إلى خارج هاتين المنطقتين على امتداد القرن العشرين. وكان العقاد قد ذهب إلى أن بيتاً واحداً من الشعر يعادل رواية بأكملها، فالرواية تشبه الخرنوب الذي وصفه الواصف بأنه قنطار خشب ودرهم حلاوة ولكن نجيب محفوظ الروائي الشاب الواعد سنة 1945 في الوقت الذي كتب فيه العقاد رأيه السلبي للرواية، كان لابد أن يدحض الرأي الذي انتهى إليه العقاد، في تعليقه على ضآلة عدد الروايات في مكتبته الخاصة بالقياس إلى الشعر، وذلك على نحو أثار الحياة الثقافية المصرية، فرد عليه عدد من شبانها، وكانت أقوى الردود الكلمات التي خطها الروائي الشاب نجيب محفوظ ونشرتها مجلة «الرسالة»، ولم يكن أحد يتخيل أن هذا الشاب المتحمس للرواية والذي وصفها بأنها «شعر الدنيا الحديثة» هو الذي سيصل بالرواية العربية إلى العالمية، ويكون أول العرب الحاصلين للرواية العربية على جائزة نوبل سنة 1988، مثبتاً سبق الرواية على الشعر والمسرح في طريق العالمية، وفاتحاً شهية الشعراء للوصول للعالمية، خصوصاً في دوائر ترجمته التي تراوحت بين ترشيح محمود درويش وأدونيس، وكلاهما يستحقها. منذ ذلك الوقت راجت الرواية في الأقطار العربية، وشملت خارطتها أقطاراً جديدة، خصوصاً في الخليج الذي طفرت رواياته طفرة دالة، وأصبحت الرواية العربية شاملة الأقطار كلها، وأخذت الروايات تنهمر علينا من دور النشر التي لاحظت الإقبال عليها، فأصبحت تميل إلى نشرها بدلا من الشعر. وقد لاحظت ذلك فخصصت للرواية عدداً خاصاً من «فصول» مجلة النقد الأدبي، حين كنت أرأس تحريرها. ولم أتردد في إقامة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي الذي كان الأول من نوعه كما وكيفا، وألحقت به جائزة تمنح لمبدع متميز من الروائيين العرب، وكانت الجائزة من نصيب المبدع الكبير عبد الرحمن منيف الذي يرجع إلى أصول سعودية، ولكنه آثر الإقامة خارجها. ولا أزال أذكر اللحظة التي أعلنت فيه نتيجة لجنة التحكيم الخاصة بالجائزة، وكان مقرر اللجنة إحسان عباس، ورئيس لجنة التحكيم هو رئيس لجنة المؤتمر المرحوم فتحي غانم، وقد ظل الحضور الذي ملأ المسرح بدار الأوبرا المصرية يصفق في حماسة، خلت معها أن جدران المسرح تردد أصداء التصفيق، تعبيراً عن نوع من الإعجاب لم أشهده من قبل، ولم يكن هناك دافع أقوى من ذلك على دفعي للفراغ من المقالات التي جمعتها في كتابي «زمن الرواية» الذي كان أكثر كتبي إثارة للاهتمام وباعثاً على إعادة النقاش في علاقة الصعود والهبوط للأنواع الأدبية.