كان يحيى بن خالد يقول لولده: انظروا في سائر العلوم، فإنّ من جهل شيئاً عاداه: وأكره أن تكونوا أعداءً لشيء من العلوم، وكان يقول: ما رأيتُ أحداً إلاّ هبتُه حتّى يتكلّم، فإذا تكلّم كان بين اثنتين: بين أن تزيد هيبته، أو تضمحل. وقال: ثلاثة تدلّ على عقول أربابها: الهديّة، والرسول والكتاب. وكان يقول لولده: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدّثوا بأحسن ما تحفظون. وكان يقول: من بلغَ رتبةً فتاهَ بها خبّر أنّ محلّه دونها أخذ هذا من عرض كلامٍ لأكثم بن صيفيّ. قال الجاحظ : كان أكثم بن صيفيّ يقف بالموسم كلَّ سنة، فيتكلمّ بكلام يحمل عنه. فقال مرةً: من نال رتبةً فتاهَ عندها فقد أظهر أنّه نال فوق ما يستحقّ. وكان يحيى بن خالد يقول: المواعيد شباك الكرام، يصيدون بها محامد الإخوان. ألا تسمع قولهم: فلان ينجز ويفي بالضّمان، ويصدق في المقال، ولولا ما تقدم من حسن موقع الوعد لبطل حسن هذا المدح. وقال: عجبت للملك كيف يسيء، وهو لا يشاءُ أن يسيء إلاّ وجد من يحسّن إساءته ويزيّنها عنده ويصوّب فيها رأيه. وقال: ما أحدٌ رأى في ولده ما أحبَّ إلا رأى في نفسه ما يكره. أخذه من قول أكثم بن صيفيّ: من سرّه بنوه ساءته نفسه. وقال لكاتبين كتبا في معنى أطال أحدهما واختصر الآخر، فقال للمختصر: ما أجد موضع زيادة! وقال للمطيل: ما أجد موضع نقصان! وكان يحيى يقول: من تسّبب إلينا بشفاعة في عمل، فقد حلّ عندنا محلّ من ينهض بغيره، ومن لم ينهض بنفسه لم يكن للعمل أهلاً. وكان يقول: لا للكرام أرجى من نعم للّئام، لأنّ لا للكرام ربّما كانت عن غضب وإبّان سآمة يحسن بها العاقبة ونعم للّئام تصدر عن تصنّع وفساد نيّة وقبح مآل. وكان يحيى يقول: من صحب الملوك يحتاج إلى عقل يهديه، وعلم يزينه، وحلم يحسّنه، ودين يسلّمه. وخيرٌ لمن استغنى عن السّلطان ألاّ يفتقر إليه، فإنّ ذلك ألذّ له في دنياه، وأسلم له في آخرته. وقال: من حقوق المروءة، وأمارة النبل أن تتواضع لمن دونك، وتنصف من هو مثلك، وتستوفي على من هو فوقك. ولله درّ النابغة الذبياني حين يقول: فمن أطاعكَ ، فانفعهُ بطاعتـــه كمــــا أطاعكَ ، وادللـهُ على الرشدِ ومن عَصاكَ، فعاقِبْهُ مُعاقَبَــــة تَنهــَى الظَّلومِ، ولا تَقعُدْ على ضَمَدِ إلاّ لِمثْلِكَ، أوْ مَنْ أنتَ سابِقُــــهُ سبقَ الجواد ، إذا استولى على الأمدِ أعطى لفارِهَة ٍ، حُلوٍ توابِعُهـــا مــنَ المَواهِبِ لا تُعْطَى على نَكَدِ