(سبعون: حكاية عُمْر) هو عنوان سيرة ميخائيل نعيمة الذاتية التي نشرها موثِقا لمراحل حياته بين أعوام 1889 و1959 في ثلاثة أجزاء يختمها بالحديث عن عودته الأخيرة من المهجر الأميركي إلى قريته بسكنتا في سفوح جبل صنين، وهو الجزء الذي أعدّهُ أكثرها تشويقا لإعادة قراءته استذكاراً، أو لتحليل نصوص السيرة الذاتية التي كتبها نعيمة لتكون ثقافية وحياتية معاً. زمن الكتابة له دور في تلك الأهمية؛ فنعيمة يكتب بعد غيبة في الولايات المتحدة قرابة عشرين عاماً. تجنس خلالها بالجنسية الأميركية، وتجنّد فترة في الجيش، وعمل في الصحافة والنقد بصفته الشخصية، وصار نائبا لجبران في رئاسة الرابطة الأدبية في المهجر الشمالي. لغة نعيمة لغة سرد حديث يُعنى بتفاصيل الأحداث والتسميات والأزمنة والأمكنة والدلالات، مسترجعاً من ذاكرته ما لم يتحْ له نقله من مذكراته المفقودة. لقد ظن أن عامه السبعين مِفصَل يتوقف عنده، والعودة لخزين ذكرياته وكفاحه في المهجر والوطن. لكنه عاش حتى عامه التاسع والتسعين دون أن يستكمل السنين التي تلت نشر (سبعون). كانت عودته واقعةً دراماتيكية حقاً. فقد هجر نيويورك وعاد بالباخرة لبيروت، وعبْر رحلة شاقة يصل قريته. يبحر عشرين يوما يقرأ خلالها صفحة المياه ولغز البحر، ويصف ما يراه بدقة ورهافة. سيزور ضريح جبران في بشريّ. ويستذكر عمله في كتابه عنه، وجدله مع أمين الريحاني حول شخصية جبران كما وصفها نعيمة. ولقد عانى من حربين عالميتين، يقول إن ثانيتهما كانت أشد قسوة، ويصرح بحبّه للسلم، حيث لا يرى بشاعة الحرب تدميراً وتشويهاً للأجساد والعمران فحسب، بل الفظاعة والبشاعة أنها (تشوّه الروح قبل أن تشوّه الجسد) كما (أطلقت أبشعَ الغرائز البشرية من عقالها) ويقصد بذلك ما يحف بالحرب من جرائم واستغلال؛ فيستفيد تجار الحروب من ظرفها ووطأتها على الإنسان؛ فيتحكمون في وسائل عيشه وقوْته، ويستذكر حكمة المتنبي: مصائبُ قومٍ عند قوم فوائدُ. ويعرّج على صعود النازية والفاشية وظهور البلشفية في روسيا التي كان قد درس فيها ستة أعوام، قبل توجهه للمهجر. أعطته عودته الأخيرة لقريته العزلةَ التي يحبذها؛ لأنها (حاجةٌ في نفسي، مثلما الخبزُ والماء والهواء حاجةٌ في جسدي). لقاء الأهل واسترجاع ذكريات القرية وحقولها وكهوف جبالها، وخطبه المتتالية وقصة تأليفه لكتبه تلك الفترة يبسطها كلها بسرد لا يسلب أدبية السيرة الذاتية وخصوصيتها بل يزيد من نسبة الخيال فيها.. الخيال الذي قال حين حاضرَ في الجامعة الأميركية ببيروت إنه يجب إطلاقه من أقفاص العقل بأجنحته التي تنمو وتشتد. وفي إحدى خطبه يعيد لذاكرتنا ثورته النقدية في (الغربال). كما يكتب عن لحظة استقلال بلده والبلدان الأخرى، وما جاء به العلم من مخترعات كالراديو والتليفزيون والهاتف والسيارة، ولكن دهشته المعبر عنها صوراً وعواطفَ ولغةً صافية تتجلى، في كتابته عن الطبيعة في قريته التي قضى شطر عمره الباقي فيها، مرورا بموتاها وأحيائها، وما يعنيه الموت كواقعة لا مفر منها.