حياتنا تبدأ بالحلم، فهو الذي يلون عمرنا بالألوان الزاهية، ولولا الأحلام لما ازدهرت الحضارة البشرية، ولما أضاءت مصابيح الفكر دروب المتأملين في اللوحة الطبيعية، المزدانة بكل ما يخلب، وكل ما يفتح حدقة علامات التعجب في عالم يزهو بالإبداع، ويزهر بشعاع الشمس ونور القمر.
ولكن هذه الأحلام تطفئ قناديلها، عندما يسطو الشك على شمعاتها، ويستولي على ألسنتها الضوئية، ويجرد أشجارها من الأوراق والثمار.
الشك آفة الشكّاكين، ومعضلة الذين تسكنهم الريبة، وتسلب منهم بياض الموجة، وهديل الحمام، ورقصة الغزلان في برية النماء.
الشك كائن مميت، يتسلل إلى القلب، ويمسك بتلابيب نبضاته، ويحولها إلى عزف حزين، يحولها إلى طبول تقرع، وترفع رنينها في الليل البهيم، فيفزع النائم من نومه، يبحث عن حلمه الجميل، فلا يسمع غير أجراس الألم تطوق مهجته، وترعى في بيدائه جياد جامحة، وكائنات أشبه بمخلوقات عصور بائدة.
الشك حيوان قارض، يفتك بملاءة الطمأنينة، ويجعلها خيوطاً ناتئة، يجعلها خرقة بالية.
الشك يفني ولا يغني، الشك يميت ولا يحيي، الشك يغرق ويسرق، ويمرق، ويمزق، ويحرق ثياب الفرح، ويذهب بالحياة إلى هوة سحيقة، وفجوة محيقة، إنه يمنع دخول الهواء إلى غرف الناس، ويكبح الماء كي لا يعبر الجداول في الحقول.
الشك يأتيك بمخالب وأنياب، ينهش، ويهمش، ويغبش، ويبطش، ويجعل الحياة مكباً لنفايات الهوجس والكوابيس، يجعلك عند رصيف ملتهب، تحاول أن تعبر، لكنك تصطدم بزحام الأفكار السوداوية، تكون أنت خلف ستارة سوداء، لا ترى حتى صورتك، لا ترى شيئاً، لأن الشك يقف من خلفك ومن أمامك، إنه يحيطك مثل محيط هائج يرتكب جريمة الأعراق لمركب مسالم.
الشك يستطيع أن يبليك بالعصاب القهري، ويجعلك في شباك الاكتئاب، مثل سمكة مغدورة، يغمرك بالتوجس، فتغطس أنت بقارب صغير أصغر من راحة كفك.
الشك يجعل أحلامك عربة معطوبة، تتدحرج على سفح منحدر، يطيح بك، وتمنى بخسائر فادحة، أولها أعز ما تملك، وهو عقلك.
الشك يحول الصديق عدواً لدوداً، والحبيب خائناً، والزوج أو الزوجة حشرة ضالة تؤذي العين، وتؤلم الفؤاد.
الشك أكبر مجرم، يسرق أشياءك، ويخلع مسامير أبوابك، يجعلك عارياً، ترجفك لسعة النظرات المريبة.