من قال لا أعلم فقد أفتى. فإن تفتي في كل شيء، و تتصدى للإجابة عن كل شيء، فأنت جاهل لا محالة.
الذين يعلمون، هم الذين يفكرون ألف مرة قبل الإجابة عن سؤال يعرفون إجابته، لأن هؤلاء يعرفون معنى أن تفكر، وأن تتريث وأن تضيء عقلك بالتأني، قبل أن تضيء عقل الآخرين بالإجابة. قال سقراط الذي أعرفه جيداً أنني لا أعرف شيئاً.
وقال يسوع، الذي أعرفه بحجم حبة الرمل، والذي لا أعرفه بحجم حبات رمال العالم. معضلة العالم اليوم تقع في كثرة الجهلاء، وقلة العقلاء، الأمر الذي بسط جناح الذل والهوان في الفكر الإنساني. فلدينا اليوم حشد من المتكلمين في كل شيء، ولدينا أيضاً ندرة في الذين لا يقولون شيئاً.
هذه ظاهرة عالمية نشهدها في كل مجال من مجالات حياتنا، ولو تابعنا ما تقذفه علينا وسائل الإعلام من أنصاف المثقفين، الذين تتوجه إليهم هذه الوسائل، بمسميات ما أنزل الله بها من سلطان.
لدينا اليوم من المحللين والباحثين والمفكرين، في كل الشؤون والشجون، ما تعجز عن حملهم الجبال، هؤلاء كالزبد، يهرولون، ويروجون، ويسقطون ثمار الحياة من عَلٍ، حتى تجف وتعجف، وتصبح خشاشاً، هؤلاء لا يكفون عن قذف نفايات عقولهم في أذهان الناس، ويتبوأون المشهد الإعلامي بكل صلافة وعجرفة، ويلوكون لبان اللغو بكل حماقة وصفاقة، ويجترون أضغاث أحلامهم وأوهامهم، ويكررون أنفسهم مثل عجلات خربة، تدور على أرض طينية، هؤلاء تتصيدهم وسائل البث المشوش، وتنصبهم أعلاماً في الإعلام، ويمسحون بتلابيب الثقافة العالمية فيمسخونها، ويستنسخونها، ويسوقونها، كما القطيع على أرض قاحلة، والنتيجة الفادحة، أننا أمام مشهد يزدري ذائقة المشاهد، والمتابع والقابع أمام الشاشات الملونة، وتجعله يهضم وجبات تصيبه بعسر التفكير والتدبير.
هؤلاء المحللون، مثل المداوي بالأعشاب، لا تنقصه الحيلة، فلكل داء لديه دواء، وربما الدواء الواحد يداوي به كل الأدواء.
مفكرون، يملكون ملكات الاختراق لكل معضلة ومشكلة، مفكرون من الطراز الاستثنائي، خارقون، يتسع إدراكهم محيطات الحياة وبحارها، ولا يوقفهم السؤال عند إجابة ما، فكل الإجابات جاهزة ومعدة سلفاً قبل السؤال.
لدينا مفسرون أشبه بالمنجمين، يحيطون بالمعارف، مثل أي خياط آسيوي، لديه المقاسات جاهزة لكل من يريد أن يفصل جلباباً أو قميصاً، ومن دون أن يفتح عينيه، أو يفرك أذنيه، فهو عارف وعرّاف بالطول والعرض، والارتفاع والوسط.