(1) من شأن الانتظام العام السياسي أو الاجتماعي أن يسعى إلى طرد المشاغبين من صفوفه، وبعض الشعراء الكبار هم من المشاغبين التاريخيين الكبار، لذا فنادراً ما نجا أحدهم من محاكمة أو ملاحقة أو لعنة. من بين هؤلاء شارل بودلير الفرنسي، وأمل دنقل المصري. (2) سُلِكَ شارل بودلير (1821م ـ 1867م) في سلك الشعراء الملاعين، maudits، وقد عاش النتائج الأولى للثورة الفرنسية 1789م، وشهد تفاعلات مبادئها في المجتمع الفرنسي، وكان يسخر من نشيد المارسلياز ويسميه نشيد الأوباش، وقد أحيل ديوانه “أزهار الشر” على المحاكمة لما انطوى عليه من قوّة نقدية. سخر بودلير أيضاً من مقولات الثورة الفرنسية كالحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، حين جاء تطبيقها ملتاثاً ودموياً، حتى غطت الدماء باريس، وأصبحت “المقصلة” بنتاً من بنات الثورة. وقد كشف بودلير من خلال مذكراته المبعثرة التي نشرت بعد موته، وقام بترجمتها للعربية آدم فتحي، عن ذات تأثره ضد ما ساد في مجتمعه من قيم. فقد كتب لأمه أنه ينوي نشر كتاب بعنوان “قلبي عارياً” يضمنه كل أحقاده، وهو يسميه “كتاب الأحقاد”، يقول فيه: “سأوجه ضد فرنسا برمتها طاقتي على الوقاحة، بي حاجة الى الانتقام كحاجة الرجل المنهك الى حّمام”. وكتب في إحدى شذراته “الأديب عدو العالم” مثلما كتب في شذرة أخرى “الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة، إذن، لن يكون الرجل عظيماً، إلا إذا انتصر على أمته جمعاء”. (3) بعد هزيمة حزيران 1967 المعروفة، بدأ الشاعر المصري أمل دنقل يضرب ضرباته الشعرية المخيفة، التي بدأها في قصيدة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” حيث يشكو فيها لجدته الزرقاء أوجاع من أثخنتهم الطعنات وزحفوا في معاطف القتلى وفوق الجثث المكدسة، مغبري الجباه، مقطعي السواعد، ممسكين بالراية المنكسة، ويسألها عن وقفة الأعزل بين السيف والجدار، والجرذان تلعق من دمه حساءها، وعن وقفته هو المُهان “لا الليل يخفي عورتي ولا الجدران”... “هذا وأنتِ يا زرقاء/ وحيدة عمياء”. لكأن زرقاء اليمامة الماضي الجميل، صارت اليوم بمثابة رادار معطل. استخدم أمل دنقل الماضي البطولي لا لتمجيده، بل لكي يلعن من خلاله الحاضر، يلغمه ويحرقه. يقول في قصيدة “خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين”: “أنت تسترخي أخيراً/ فوداعاً يا صلاح الدين/ يا أيها البطل البدائي الذي تراقص الموتى على إيقاعه المجنون/ يا قارب الفلّين...” ويصوّره في آخر القصيدة، وقد تدلّت الورود على قبره كالمظليين.. فالماضي يصبح قيمة معطّلة تجاه حاضر أجوف... ويظهر أمامه مثل مَنْ لا يستطيع مدّ المساعدة للحاضر الغريق.