في حوار الحضارات، مساق للثقافة في سياق الحياة وما يتبعها ويشملها من فعل وتفاعل.. فالحضارات لا تنمو ولا تصمد ولا تزخر ولا تزدهر، ولا تقوى على الاستمرار إلا إذا تمتعت بقوة طاقة ثقافية هائلة، قادرة على الندية والمقارعة وإثبات الهوية وتحقيق معاني الوجود بما تحمله الثقافة من جينات مضادة للسرطنة مقاومة للتعفن.
الحضارة وعاء للثقافة والإنسان هو حامل هذا الوعاء، فإذا تمتع الإنسان بوعي شفاف محصن من زلات الخوف والتردد والتقوقع والاحتكار، والإلغاء والإقصاء، فإنه يأخذ بشراع الثقافة ويفرده عالياً، يذهب به بعيداً يغوص من خلاله عميقاً فيحمي نفسه من الانكفاء والانزواء ثم الانقراض، ثم الضياع في تيه المراحل ما بعد الفراغ.
منذ بدء الخليقة وإلى أن تغيب شمس الوجود، والإنسان يسعى لأن يثبت وجوده على الأرض متوازياً مع خيوط الشمس، متساوياً مع أحلامه التي تحلق وتحدق وتصفق، وتتعلق أحياناً بحبال الهواء لكنه يمضي، وأول ما بدأ فعله هو تقليد الطير، فصنع جناحيه من ريش هذه المعجزة الكونية، لكنه هوى ولم يحقق الأمل، لأنه تعلق كثيراً بالوهم فأطاح به، لكن هذا لا يعني أن الإنسان أحبط وأثبط بل راوغ وساور، وحاول إلى أن أسس جمهوريته الفاضلة في الطيران.. ولأن مطلب الإنسان في الحياة هو الحرية، فإن هذه الحورية الحرية، هي ما يفرق الإنسان عن سواه من الكائنات كما قال جان جاك روسو، وليس التفكير كما ذهب ديكارت.. والحرية هي الطريق إلى تأسيس ثقافة حقيقية والثقافة هي نبت الوعي والوعي لا يتحقق بنزع فتيل الألف باء، وإنما دائماً هو نتيجة المصالحة مع النفس واقتناع الفرد ثم المجتمع أنه قادر على استلهام الثقافة، تقاسم مشترك يؤدي به إلى تحقيق الذات والحفاظ على الهوية، وبعث الروح في الأنا ليكون مقاوماً لكل ما يشل حركة العقل، ويفل طاقة التنفس، ويزلزل المفردات والمعاني ويجلجل في العلاقات ما بين الإنسان والآخر.
في المجمل، فإن الإنسان الحقيقي هو الإنسان المحصن بثقافة لا تركع ولا تتبع، وكذلك لا تمنع ولا تقبع منكفئة على نفسها، حيث الجمود سبيل إلى الفناء والانتهاء وتلاشي الأشياء، فحضارات سادت ثم بادت، وأخرى جادت فأجادت لأن الأشياء لا تنمو ولا تتطور بالسكون، والأشياء لا تنبع إلا بالحركة والتداخل والتواصل، وكلما انشغل الإنسان بموته كلما أسرع إلى قبر النهايات وكلما تكورت الثقافة حول سوداوية اكتئابية كارهة أطلقت رصاصة الرحمة على نفسها وأعلنت وفاتها.. فالثقافة الحقة صنو الحيوية والحركة، والديناميكية، والنأي عن الاحتباس الحراري، والسعي قدماً نحو فضاءات تتسع حدقاتها وتعلو درجاتها.. ولا تموت الحضارات إلا باضمحلال الثقافة، ولا يعد كفن الإنسان ثم المجتمع إلا بضمور الثقافة وانسلاخها من جذور المعرفة وتواري بصيصها خلف غيوم وسقوم اجتماعية كأداء.


marafea@emi.ae