عندما أعيد التأمل في النظرة التي ترد كل جمال إلى الماضي، وتهرب من الحاضر السلبي إلى فردوس جميل لماض تخلقه، تعويضا، أقول لنفسي إنها نظرة عاجزة عن مواجهة الحاضر، وأن الحاضر مهما كانت صفاته السلبية، ومهما بدا قاتما، كئيبا، باعثا على الهرب منه، فإنه لا يمكن أن يخلو من أمل، ونقطة ضوء، مهما بدت صغيرة، فإنها ثغرة في جدار اليأس· ولذلك فالأمل يظل قائما، وكل ليل يعقبه نهار، وليس في ذلك نوعا من القدرية والكلام الذي يلهي مؤقتا عن مواجهة سلبيات الواقع أو الحاضر، فالمؤكد أن حياة الإنسان على الأرض ليست بلا معنى، وأهم ما في معناها أنها حياة لا يكتمل لها عنصر القيمة إلا بمقاومة شروط الضرورة، واحتمالها، ومواجهتها، والتصدي لها، إلى أن ينتصر الإنسان عليها، فيستبدل بشروط الضرورة آفاق الحرية التي لا نهاية لمراح الإنسان الخلاق فيها· ولذلك أذكر، حين تضيق بي الحياة، ويصبح العالم على رحابته أضيق من ثقب الإبرة، أبيات الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت التي تقول: إن حياتك ليست مزحة، فلتحيا حياتك جادا كالسنجاب، لا تنتظر عطاء أو عونا من غير، فأغوص في أعماقى، وأعثر على بذور المقاومة فيها، وأرعاها، وأقول لنفسي مرارا وتكرارا، ما قاله الزعيم المصري مصطفى كامل لأجيال سبقتني: لا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة· حينئذ، أثوب إلى وعي موضوعي أكثر، وقدرة على تحليل الوضع الذي وجدت نفسي فيه، أو ألقيت نفسي في دواماته، فأجد بصيص الأمل الضئيل يتسع، ويتزايد اتساعا، على الأقل بما يضعني على عتبة شعور مختلف· وقد أتأمل التاريخ البشري فأجد أن التقدم الإنساني كله كان نتيجة مقاومة الإنسان لشروط الضرورة بكل أشكالها وألوانها، والمؤكد أن هذا الإنسان الذي بدأ مسيرته الحضارية شبيها بالحيوانات، لم يصل إلى ما وصل إليه، ولم يقضِ على أفتك الأمراض، ويغزُ الكواكب والنجوم إلا بفضل مقاومته لكل شروط الضرورة والنقص في كل مظاهر الكون، مهما كانت صغيرة أو كبيرة، في أعماق الأرض أو فوقها، في الأنهار والبحار والمحيطات، إلى أن أصبح الإنسان، بحق، سيد الكون، الجدير باستخلاف الخالق العظيم له على الأرض التي خلقه عليها·