هكذا يبدو الإنسان، كلما نظر إلى الوراء، تحول إلى حجر ضخم في مسار نهر جارٍ، هو الحياة، كما تقول الحكمة «النظر إلى الوراء ليس بالصفقة الرابحة، إنه يحولنا إلى تماثيل».
فعندما تدخل في النهر المتجمد الذي تطلق عليه بالماضي، فإنك تصبح أحفورة قديمة، متجمدة، نساها ربان سفينة عابرة للمحيطات في تلك المنطقة المتجمدة، فتلف كل ما هو مهم في أجزائها، وصارت معدومة القيمة.
الذين ينظرون إلى الوراء، لا بد وأن يتعثروا في مشيتهم، وقد تكون العثرة مؤلمة، وفظيعة لا نهوض بعدها، وتكون القافلة قد سلكت طريقاً طويلة، ولم يعد بالإمكان اللحاق بها، مهما امتد نظر المتأمل بعيداً.
الذين ينظرون إلى الوراء أشبه بالذين يجلسون في غرفة مظلمة، ويبحثون عن إبرة في كومة قش، إنهم لا يستطيعون العثور عليها، وبالتالي سوف يلقون باللوم على الظلام، ويلعنون النور المختفي الذي لم يفسح لهم الفرصة كي يعثروا على الإبرة.
إبرة الحياة دقيقة، إلى درجة أنها لا ترى بعين يغشيها الظلام، هي فقط متاحة للذين يتوضأون بالنور، ويرتدون أهداب الشمس، ويقتعدون عرش القمر.
هؤلاء هم فقط المحظوظون الذين ترفع لهم الحياة القبعة، وتضع على صدورهم أوسمة النجاح، وتمنحهم تيجان الظفر. فكلما كنّا أكثر اتساعاً في الوعي، تجاوزنا حدود الظلام، ووصلنا إلى قمة الجبل من دون أن نتخبط عند الصخور الوعرة، ومن دون أن يلتهمنا الخوف من التقدم إلى الأمام.
الذين ينظرون إلى الوراء هم أرانب مذعورة، يلاحقها شبح المفترسات، وما هي إلا أضغاث أحلام، ما هي إلا مخالب وهمية، زرعت في والوجدان بفعل ذاتي لا غير، فنحن الذين نصنع خوفنا، ونحن الذين نضع الصخور في طريقنا، ونحن الذين نحفر خنادق الرعب في نفوسنا، ثم نعلق ضعفنا على مشاجب الآخر، ونقول كفى، يجب أن نعود إلى الماضي لعله ينقذنا من مغبات المستقبل، نحن وليس غيرنا، وعندما تكون الإرادة بحجم جناح بعوضة، فإن من السهل لأضعف ريح أن تلوي ذلك الجناح وتدفعه إلى حيث تجتمع النفايات، ولا مجال للنهوض، لأن من يقع ولا يجد العصا التي يتكئ عليها، فلا بد له أن يظل في أعماق الحفر، ولا يملك غير النعيب، لا يملك غير النحيب، وحثو الرمل على الوجه، وهذا إن وجد الرمل، لأن الوقوع يكون أحياناً على أرض جرداء صلدة، تتكسر على أديمها جمجمة الإرادة الكسولة، وتختفي أضواء الأفق المسدود.