(1) الدكتور حسن أمراني، صديق وشاعر، تربطني به مودة قديمة، وبيننا بعض المراسلات وتحيات الكتابة. من بينها قصيدة أهداها لي في ديوانه “مملكة الرماد”، وهي هديته الأولى. أما الثانية فهي تعليقه المنشور في “الاتحاد الثقافي” في العدد المؤرخ بتاريخ 25 فبراير 2010، وفيه يشير الى خطأين وقعت فيهما في مقال سابق لي بعنوان “خطأ أفلاطون”، أحدهما تاريخي يجعل أرسطو أستاذاً لأفلاطون وليس العكس، والآخر ينسب بيتاً من الشعر لأبي نواس، في حين أنه لأبي محجن الثقفي. والحال أن محجتي الحقيقة الإبداعية وهي تختلف عن الحقيقة التاريخية، لكن ذلك لا يبرر زلل الذاكرة، فالذهن يكلّ، والقلم يزلّ، ومن يعمل يخطئ. وأستعيد ما قاله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، حين وجه كلامه لمن انتقده وهو واقف على المنبر: رحم الله امرأً أهدى إلينا أخطاءنا أو عيوبنا. لكن هذه المسألة فتحت ذهني على مسألة أخرى، وهي: لماذا زلت بي الذاكرة مرتين في مقال واحد؟ وذلك أنني لا أكتب مقالاً محكماً موثقاً، بل أكتب ظللال الفكرة. (2) أرجح أن السبب هو ما أملاه عليّ اللاوعي، ففي نفسي راكزٌ أن أفلاطون تلميذ لأرسطو وليس العكس، ذلك أن “أرسطو” هو مؤلف “فن الشعر”، وهو في هذا الباب أجلّ من أفلاطون وأكثر استقصاء وتعليلاً، وكان له الأثر البالغ في صياغة النظرية النقدية للشعر سواء في الغرب أو لدى النقاد والفلاسفة المسلمين. فهو في ذاكرتي أوْلى من أفلاطون بالأستاذية، وهو خطأ تاريخي قد أقع فيه في المستقبل، ولا أعِد بالإقلاع عنه. أما بشأن نسبة بيت الشعر التالي: “إذا متُّ فادفنّي إلى جنب كرمة ترويّ عظامي بعد موتي عروقُها” الى أبي نواس، في حين أنه لأبي محجن الثقفي، فإنني أرى أن النواسي أولى بهذا البيت من أبي محجن، حتى ولو ورد في المسعودي وسواه، تنسيبه لأبي محجن. إن في هذا البيت جوهر أبي نواس الشعري الذي لا يخطئه اللبّ. وقد ورد في الأغاني (نعم في الأغاني على الأرجح) أن الفرزدق كان يغصب بعض الشعراء أبياتاً تليق به هو ولا تليق بهم... فيمتنعون عن ذكرها في قصائدهم خوفاً منه. أوُرِد ذلك على سبيل الطرفة، وإن كان فيه دلالة معبرة على مَنْ هو الشاعر، وما هو جوهر قوله الشعري. (3) أخيراً، ولكي أختم بما لذّ وطاب، أروي لصديقي حسن الطرفة التالية: كان لي حين درّست فترة من الزمن في الريف الجنوبي، تلميذان أخوان أحدهما اسمه حسن، ظريف لطيف خفيف الظل أحبه، والآخر اسمه حسين، متجهّم كسول بطيء الفهم أنفر منه. وكانا يجلسان متجاورين في صف واحد. وحصل أن أخطأ ذات يومٍ حسن، خطأً جعل كفي تتوجه بصفعة خفيفة إلى أخيه حسين، صاح حسين: هذا أنا يا أستاذ، وليست أخي. لكنّ ذاكرة الكفّ كانت توجهت إليه وليس لأخيه. وهكذا قضي الأمر.