العربيّة كمعظم اللغات الحيّة في العالم يستعمل فصحاؤها الوجوهَ العالية من الاستعمال، في حين يصطنع عامّة المتعلّمين لغةً دون ذلك فيتساهلون في استعمالاتهم، إمّا لأنهم لا يمتلكون الحسّ اللغويّ الرَّهيف، وإمّا لأنهم لا يريدون أن يتعلّموا أصلاً، فيجتزئوا بما يستعمل بسطاء المتعلمين من ألفاظ تشيع في اللغة الإعلاميّة أساساً. وكثيراً ما يرِدُ في العربيّة لفظان يجوز استعمالهما معاً على وجهين اِثنين، ولكنّ وجهاً يكون أفصح من الوجه الآخر. ويعود الاختلاف في ذلك إلى تغليب السماع على القياس في اعتبار أفصح اللفظين. وكثيراً ما يعود الاختلاف في استعمال بعض الألفاظ بالفتح بدل الكسر، أو بالضَّم بدل الفتح، أو بالكسر بدل الفتح، أو بالفتح بدل الضّمّ، إلى عواملَ صوتيّةٍ خالصة، فمِن القبائل العربيّة مَن كانت تنطق لفظاً على نحو، والقبيلة الأخرى تنطقه على نحو آخر، والمعنى يظلّ واحداً. وتغليب لفظ على لفظ أو تقديمُه عليه لا يشنُع في الاستعمال، وذلك مثل الْمَسْكِنِ (بكسر الكاف، من باب تغليب السماع)، والمسكَن (بفتحها من باب القياس). وإنّما الذي يشنُع أن يقع تحريفٌ في نطق بعض الألفاظ ممّا يدلّ الفتحُ فيها، مثلاً، على معنىً، والكسر على معنىً آخر. ذلك بأنّ عبقريّة العربيّة كثيراً ما يقع العدول في النطق فيها إلى إرادة معنى آخر كتمييزهم بين العِلاَقة الدّالّة على التِّرْشاءِ الذي يُعَلَّقُ به شيءٌ في وتِدٍ أو غيره، ويسمّيه العوامّ “العَلاّقة”، وبين العَلاَقة الدّالّة على الرابطة التي تربط بين شيئين، أو شخصين، أو دولتين. ويميّز الحذَّاق بين النُّطقين في هذا اللفظ فيجعلون النطق بالكسر للمحسوس الملموس، وبالفتح للذهنيّ المجرّد. وشاعتْ مقولة بين من تعجز بهم هِممُهم عن تدقيق استعمال ألفاظ العربيّة أنّ الخطأ الشائع، خير من الصواب النادر! ولو عمِلْنا بهذه المقولة المغالِطة لا ستحال الحقّ إلى باطل، لمجرّد شيوعه في مجتمع يكثر فيه الظلم، ولأصبح خرْق قوانين السير، مثلاً، إذا شاع في مجتمع لا يحترم القانون، هو القاعدة، فيقع الفساد في الأرض. إنّ الخطأ يظلّ خطأً أبداً، ولا عُذرَ للمُخطئِ في خطئه في العربيّة إذا كان مدرّساً أو إعلاميّاً، لأنّ خطأه ينشأ عنه خطأ سَوادٍ كثير ممن يسمعه أو يقرؤه. ومن هذا الباب وقع التسامُحُ لدى كثير من العلماء الأقدمين، ومنهم لغويّون كبار، في استعمال بعض الألفاظ على غير وجهها سَهْواً في الغالب، ثمّ قلّد هذا، هذا، فشاع الخطأ، وأصبح متداوَلاً بين كثير من كتّاب العربيّة. ومن أشهر هذا الخطأ في العربيّة، قديماً، قولُهم: “انْضاف”، بدلَ “أُضيف” الذي حقّقه الحريريّ وبيّن وجهَ فساد الاستعمالِ الأوّل بحكم أنّ “انضاف” لم يأتِ من فعل متعدٍّ أصلاً بل جِيءَ به من فعل رباعيّ [ضَافَ+أ]، فيما يقول الحريريّ، لأنّ “انفعَل” إنما يكون في المتعدّي مثل سكَبْته فانْسَكب، مع أنّا ألفَينا عدداً كبيراً من العلماء والكتّاب (جاوزوا المائتين) استعملوا “انضافَ” بدل “أُضِيفَ” سهواً أو قصداً، ومنهم لغويّون كبارٌ مثلُ ابن جِنّي، وكتّاب كبار مثلُ بديع الزمان الهمذاني.