في يوم السعادة العالمي، تمنيت أن أرى ضحكات العالم تشرق على وجوه الكل، وطرأت على البال أماكن خاصة، وفي أزمنة متباعدة، يومها أمسكتني تلك المدن، وحاصرتني الساعات، ولم تدعني أمرّ، كانت السعادة غامرة، كسحابة من ندى وسكينة، مثل لحظات قبض الإيمان، لا شيء غير الخير، كمن غسلك بالماء والثلج والبَرَد، فأيقنت أنها السعادة مرسلة.. لو يتذكر الإنسان لحظات معينة في أماكن معينة، قبض فيها على السعادة التي لا يخطئها القلب، لحظات تتمناها أن لا تضيع في عجالة الحياة، وتعب الأيام، وغفلة النفس، تتمناها لو أن يومها طويل أو يطول:
مدريد:
ذات ليلة صيف بهي كالعافية وأكثر، في مطعم «ايل خاردينLa Terraza y El Jardín» تحت تلك الأشجار المتعالية بحنو، والمتدلية بشوق، المحاذية لفندق «ريتز» العتيق، ومتحف «برادو»، كانت ليلتها زيارة متجددة بعد طول انقطاع عن إسبانيا، ومدنها التي أحب، ساعتها حضرت كل الأشياء التي أعشقها، وحضر الألق، وغابت كل المنغصات، وغاب القلق، كان هواء الليل يتعانق من نغمات من غيتار إسباني بعيد، وهمسات لبحة ذكورية لمغن غجري يساير راقصة «الفلامنكو»، وثمة تداعيات يجلبها الخاطر، وتوقظ فيك الهوى وليلى، فتشتعل حريقاً، ما يجعلك تقبض على قلبك كي لا يفرّ من قفصه الصدري، تابعاً العشق، ودروب النجوى.
- باريس:
كانت ليلة زمهريرية، والخريف في آخر رمقه، والمسكن خال من أي أثاث في مكانه، ثمة فوضى تجعلك تربط رأسك، وتشد جبهتك، وتتفكر؛ ما أصعب أن تفكك أعضاء أي شيء، وما أصعب الانتقال! أي وحشة يمكن أن تتركها في المكان القديم، وأي وحشة ستسبقك إلى المكان الجديد! ليلة تقلبت في ساعاتها الكسولة، حتى أخذك الحلم لقريب الفجر، وقال لك: انهض، ثمة سعادة ستلاقيها هذا النهار، بدأت بزخات من مطر لؤلؤي على ذلك الزجاج المطل على نهر السين، ومراقبة من عل لكل أولئك الغابشين تتبعهم أوراق الخريف المصفرّة اليابسة، ولمعة البلل في الطريق، ونداء هو شيء من الدفء الصباحي لامس القلب فجأة، وحضر.
- بغداد:
ذات فجر، حينما كانت بغداد.. بغداد، ثمة صهيل لخيول الفتح، وثمة سيوف هندية تلمع شهباً كعيون الرجال، وثمة شعر وشعراء، وثمة زهو بأنك عربي، وفقط، يكفيك أن تذرع شوارع بغداد حينها، وتشعر به، كان تمام الليل، وكنت أبحث عن ظل أبي نواس، وأصوات من خطفوا على المدينة في حاضرها وغائبها، منهم من استحق قبراً من تراب وزعفران، وشجر غار، ومنهم من عاندته المدينة فلم يحظ لاسمه ورسمه بشبر من طُهر أرضها، كان فجراً ليت شمسه ظلت متوارية، لأني كنت قاب قوسين أو أدنى من أن أتبع الدرويش في دربه الصوفي، متعكزاً على الآيات والبسملة وما خطه الورّاقون، وأنشد به العارفون، كنت ساعتها بخفة غيمة لا تسعها سماء! ونكمل..