أوّل الكتاب دعوة إلى القراءة وردت بصيغة الأمر: “اقرأ”... وفي بعض معاني “القرآن” أنّهُ القراءة. في اللغة “قرأ يقرأ قراءة وقرآنا”.. وهو ينطوي على معنى التقصّي والتتبع، أي الاستقراء وما يؤدي إليه من تفكُّر. والتفكّر هو قراءة في الخلق.. من حيث أنه أوجد أوّل ما أُوجد من أدنى الكائنات أولية ورتبة في السُلّم: القلق.. إن جميع مرتبات الخلق من أدناها إلى أعلاها مصنوعة من مادة بين الطمث والدم. وهنا آية وعبرة يلي ذلك (أي الدعوة للقراءة)، ذكرُ القلم. والقلم مرتبط بالكتابة... والكتابة تخطيط كثب الشيء خطّه. قال أبو النجم العجلي: “أقبلتُ من عند زياد كالخرفْ تخُطُّ رجلايَ بخطّ مختلفْ تُكَتّبانِ في الطريق لام ألفْ” أي حين يخطو بساقيه خطوة وخطوة يرسم بهما “لا” فتأمّلْ... قالها أبو النجم قبل تطيُّر ابن الرومي بخشبتين منصوبتين على الطريق على صورة “لا” قرأهما: لا تمرّ... فلزم منزله. بين القراءة والكتابة إذن، تولد المعرفة وتتجمع وتتوّطر. هكذا كان في الأساس، وهكذا يكون إلى ما لا نهاية. وهذه المقدَّمة في لغة القراءة وقراءة اللغة، لابُدّ لها من أن تتواضع قليلاً لكي تفضي بنا إلى فكرة القراءة بعينها، بما هي مفهوم متداول ينصب على قراءة الكتب بكافة أنواعها ومستوياتها: من الكتب المخطوطة إلى الكتب المطبوعة إلى الكتب الإلكترونية، فالقراءة فرضٌ على كل متعلّم.. بل هي شرط من شروط تطوّر المعرفة النظرية والعملية، الفنيّة والعلمية والتكنولوجية في آن. فالموهبة الخام بمفردها لا تصنع بناء معرفيّاً مهما كانت قويّة ومتفجرة. وثمة نظريّة اليوم تقول ببعض ما قاله الأقدمون، حول أنّ كل إبداع جديد ما هو إلاّ تأويل وتحويل لما سبق من إبداع. يتفرع عن ذلك مسألة تداخل النصوص imtetextualite - ووقوع النصوص على بعضها البعض textualite... ولعلّ هذه الفكرة ليست على وجه التحديد ما قاله الشاعر العربي القديم. “ما ترانا نقول إلاّ معاداً...”، أو “هل غادر الشعراء من متردّمِ...”. بل أقرب لمقولة علمية هي “لا شيء يموت، لاشيء يولد، كل شيء يتغيّر”. حسناً... أعني “بقراءة القراءة”، هو ما أمارسه على نفسي وقلمي من عدم الاكتفاء بقراءة ما أقرأ من كتب بشكل خاص، بل الانتقال مباشرة إلى قراءة ما أقرأ، أي إلى تشكيل وجهة نظر ورأي نقدي اتجاه ما أقرأ. وغالباً ما أدوّن ذلك على الهوامش، أو أثبته على أوراق منفصلة ملصقة بصفحات الكتب التي أقرأ، وربما تحوّلت الملاحظات إلى مقالة أو نقد أو نصّ على نصّ أو ما أشبه ذلك في حوار مع المقروء، أو توليد جديد له. إن قراءة القراءة مثل كتابة الكتابة مسألة تبدأ ولا تنتهي. فإن قراءتي لما أقرأ ومثلها كتابتي لما كُتِب، هما بدورهما موضوع قراءات أخرى وكتابات أخرى إلى ما شاء الله.