للعرب أمثالٌ جميلة كانوا يضربونها في مواقفَ من الحياة فتطوِي لهم كلاماً كثيراً يردّدونه ويكرِّرونه. وقد يكون العرب من أكثرِ الناس ضَرْباً للأمثال، في القديم والحديث. وكثيراً ما يأتي المثلُ حُكماً حكَماً في الوقت نفسه، وذلك لدى إثارة مسألة بين متحاورين اثنين أو أكثر، في موقف ما. ومن الأمثال السائرة العربيّة الجميلة القديمة التي لم يعد الناس اليومَ يستعملونها بنصّها، ولكنْ بمعناها، ما ورد عن معنى مُثول قيمتين اِثنتين في موقف ما: إحداهما حاضرة وهي ذات شأن في نفسها، وإحداهما الأخرى غائبة وهي الأفضل مكانة، وأعلى شأناً، قول العرب: “ماءٌ ولا كصَدْآءَ”! وذلك أنّ العرب كانت تُؤْثِر ماء عين صدْآءَ على أيّ ماءٍ آخرَ ممّا كانوا يشرَبُون. فهذا الماء الذي كان يَنْبِعُ من تلك العين، كان اشتهر عند العرب بعُذُوبته وزُلُولَتِهِ، فكانوا إذا أُعجِبوا بشيء يمثُل أمامَهم، وهو ذو قيمة في نفسه، ذكروا القيمة الغائبة التي تكون، في دأب العادة، في الذهن، أفضل وأعلى. فهذا المثل يُضرب، إذن، لوجود شيءٍ جميل في نفسه وهو الحاضرُ الماثل، مع وجود شيءٍ أفضلَ منه وهو الغائب. وقد زعموا أنّ التي قالتْ هذا المثلَ، في الأصل، هي الفاتنةُ قَذُورُ بنتُ قيسٍ بن خالدٍ الشيبانيّ، زوجةُ الفارس العربيّ الشهيرِ لَقيطِ بنِ زُرَارَةَ. فقد عادتْ قذور إلى قومها بعد مقتل لقيط، في غارة ثأريّة فتزوّجها رجل آخرُ من قومها. لكنّ قَذُورَ كانت لا تزال تُبْدي إعجابَها الشديد بلقيطِ بن زرارةَ الهالك، وتحِنّ إلى عِشْرته معها حنيناً عارماً. انزعج بعلُها الثاني لذلك انزعاجاً شديداً فسألها يوماً في غَيرة بادية: ما سببُ إعجابِكِ الشديدِ بلقيط، يا قذُورُ؟ وما ذا كان يُعجبكِ فيه أكثر مما ليس عندي، أنا؟ وفيمَ تذكُرينه وقد هلَك فلا أملَ في أن تَرَيْهِ، أو تكوني له، تارة أخرى، أبداً؟ وما سرُّ هذا الحبِّ العظيم الذي لا تزالين تحمِلينه له في قلبك؟ فهلا أخبرتِني ببعض ذلكِ عسى أن أستطيع أن أكون مثلَه فأُحقِّقَ لكِ الحلم الجميل الذي ضاع منك بهلاك لقيط، فإنّما غايتي أن أُسْعِدَك وأُرْضِيَك... فقالت قَذُورُ: ما ذا أقول لك، عن ذلك، يا ابنَ العمّ؟ أذكُرُ لك موقفاً واحداً فقط عشتُه مع لقيط فلا أنساه أبداً. خرج لقيط في يوم دَجْنٍ وقد تطيَّبَ وشرِب، فطَرَدَ بقرَ الوحشِ فصرَع منها، ثمّ أتاني وبهِ نَضْحُ دمٍ، فضمّني ضمّة، وشَمَّني شمّة، فليتني مِتُّ ثَمّة! فلم أرَ منظراً كان أحسن من لقيط. خرج بعلُها الثاني، المسكينُ، إلى البرّيّة وحاول أن يفعلَ مثل فِعْلِ لقيط باصطياده صيداً، ثمّ عاد إلى قَذُور وهو ملطّخ بالدماء، ثمّ ضمّها إليه بكلّ حنانه وقواهُ معاً، قائلاً: ما رأيُكِ فيما ترَيْن منّي يا قذورُ الفاتنة؟ ألستُ مثلَ لقيطٍ في رجولته وقوّته وخشونته، وحبّه أيضاً؟ فقالت له: ماءٌ ولا كَصَدْآءَ!