ظلت جمهوريات آسيا الوسطى أو الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي سابقاً، حلم كثير من الرحالة والمكتشفين والمصورين وكتّاب أدب الرحلات، بسبب غنى هذه الجمهوريات بتاريخها العريق، وثقافاتها المتنوعة، وفنونها وتقاليدها الشعبية التي ما زالت محافظاً عليها عبر التاريخ الطويل، وتقلبات أحوال العصور والدهور عليها، لكن ما كان يعيق السفر لتلك المناطق التعقيدات الأمنية أيام الاتحاد السوفييتي، وانغلاقها على ذاتها، ومنع التواصل مع الآخر، لأن الآخر كما علمتهم الأيدولوجيا الحمراء، هو عدو وجاسوس ومخرب، لذا كان من أهم شروط دخول حدود تلك الدول أن تكون لديك دعوة رسمية من الحكومة أو دعوة من الحزب إن كنت منتمياً، أما السياحة فكانت آخر همهم، لافتقار هذه البلدان للخدمات، وشروط السياحة الحديثة، ولطبيعة النظام الاقتصادي المنغلق، على الرغم من جمال طبيعة بلدانهم، وثرائها الثقافي والفني والحضاري، فقد كانت هذه الشعوب قديماً تشتهر بالتجارة وحركة البيع والشراء ونقل البضائع، وبعض مدنهم على طريق الحرير، وهم كثيراً ما عززوا الانفتاح على الجيران، لأن منافذهم كانت الحدود مع الآخرين الذين لديهم أشياء كثيرة مشتركة معهم، منها اللغة والدين وكثير من العادات والتقاليد، وقد بقيت هذه الدول تدار بالعقلية القديمة حتى بعد استقلالها عن منظومة الاتحاد السوفييتي في التسعينيات، والانفتاح جاءهم متأخراً في العقد المنصرم مع حركة الاتصالات والمواصلات العالمية، ومع ذلك ما زالت بعضها متمسكة بموروث قديمها السياسي والاقتصادي، والحس الأمني الرهيب.
تلك الدول سعيت لزيارتها بمجرد أن سنحت الفرص، وتحسنت الظروف، وقد أخذتها بالدور، إما لقربها من بلد أقوم بزيارته، وإما لأنها مبرمجة ضمن زيارات سنوية، ومن بينها جمهورية قيرغيزستان، وعاصمتها «بيشكيك» التي تشعرك ببساطتها، وبدائية الأشياء فيها منذ الوهلة الأولى، فكل شيء هنا، وكأنه منذ أمد، مدينة غير صاخبة لولا حركة السيارات والمواصلات العامة، وإيقاع الحياة في العموم يشوبه الهدوء، كانت زيارة شتوية حيث لا شيء غير الأبيض الذي تغوص فيه قدماك غير المدربتين على ليونة الثلج الأبيض المتراكم، ولا قساوة «الثلج الأسود» الذي يحتل الطرقات، ويشبه الزجاج المصقول، ويمكن أن يسحب أي جثة بذلك الانزلاق السريع، إذا لم تكن ترتدي حذاء خاصاً بالثلج، لذا كانت المشية في ذلك البياض لرجل يعشق الرمل والصحراء أشبه بمشية الإوزة المتثاقلة، وأول وصولي للعاصمة طلبت أن أتعشى في مطعم قيرغيزي تقليدي، لتعرف أن كثيراً من الأمور تتضح عن الشعوب، بمجرد أن تدخل مطبخها، وإذا كان الرجل الكازاخي يقول: على الإنسان أن يربي حصانين، واحداً لكي يركبه في سفره، وآخر لكي يأكل من لحمه، ويشرب من لبنه، فإن الرجل القيرغيزي، لا يحمل معه في سفره إلا الشعر وسجادة.. وغداً نكمل.