عبر المحيط الأطلسي في أميركا الجنوبية وتماماً في غابات الأمازون، وقف أحد زعماء شعب «الكايابو» -الذي يعيش صراعاً كبيراً في سبيل الحفاظ على هويته وفرادته مقابل غزو الأبيض لحدودهم- أمام أبناء شعبه من الجيل الجديد محذراً إياهم من التقليد المتطرف للآخر، مؤكداً أن غياب أي خصوصية له سيجعله سطحياً وتافهاً.. وبالتالي سيسهل السيطرة عليه!
الحقيقة أن شخصية كل فرد فينا تأخذ أبعادها من منظومة أساسية من القيم الثقافية والاجتماعية، من إرثه الحضاري المعتمد بدرجة أساسية فيه على الأرض واللغة والدين وغيرها من العناصر التي تشكل ما يطلق عليه الهوية. بهذه الهوية يحدث تمايز الإنسان داخل أي محيط يكون فيه؛ وهذا مهم للغاية للحفاظ على الصحة والسلامة النفسية وبالتالي البقاء والاستمرار، ما يعني أن غيابها أو تشويهها بطبيعة الحال يعرض أصحابها للتلاشي.
لا خلاف على ما سبق، غير أن الإشكالية في رأيي حول ما يجب عمله لإقناع الأجيال الجديدة في جدوى هذا الموروث، وبالتالي تقدير هويتهم. فهذا الجيل هو جيل عملي مادي بامتياز، إنها صفة عالمية ستحكي عنها كتب التحليل النفسي مستقبلاً كوسم لمرحلة إنسانية لا أعتقد أنها ستكون قصيرة. فما يربطنا ويربط من كانوا قبلنا بموروثهم هو واصل رومانسي في الأساس، فكل منا يرتبط بتفاصيله القديمة كجزء من تكوينه الشخصي وذكرياته المليئة بالحنين المعبأ بالقيم، وذلك كمقدمة لنضج آخر يتحول فيما بعد إلى إدراكنا أن هذه التفاصيل المعنوية هي المحددة لشخصيتنا والمكونة لخصوصيتنا وفرادتنا عن باقي الجماعات البشرية.
هذا الرابط الرومانسي هو تماماً ما لا يدركه الجيل الجديد ولن يعرفه الجيل المقبل وربما سيستخف به الجيل الذي يليه، ولذا علينا أن نبحث عن معايير مادية لتأكيد جدوى العمل على الموروث في حفظه واستخدامه وتطبيقه كسلوك حياة؛ وليس هناك ما هو أكثر قدرة على التأثير من تبيان تداعيات تجاهل مكونات هويتنا، أن نجد سبيلنا الخاص الذي سيجعل الأجيال المقبلة تذهب في مستقبلها مع باقي شعوب الأرض وهي على ثقة تامة أنها ليست خالية وفارغة، وأنها تملك خصوصية يصعب السيطرة عليها، وفرادة ثقافية تثري بها وتغني الموروث البشري ككل.