احتفلت منظمة اليونسكو في الأيام الأخيرة بإحياء اليوم العالميّ للّغة الأمّ، وذلك حرصاً منها على ترسيخ الثقافات واللغات الوطنيّة، مهما تبدو صغيرة ومغمورة، لأنّها تمثِّل أصالة الإثنيّة التي تنطق بها، بعد أن فغرت العولمة فاها كالغول، فأصبحت الشعوب الصغيرة تتهيّب أن تتمسّك بلغتها الأمّ، وثقافتها الوطنيّة. واللغات الغربيّة بعامّة تطلق على هذا الجهاز الصوتيّ العجيب الذي يشكّل المعرفة في الدّماغ فيجعل مترجمَ تلك المعرفة، أو تلك الأفكار، مجموعةٌ من الحروف التي يتّخذ كلّ منها صوتاً، فيغتدي معبّراً، بين المتساكنين والمتعاملين اللغويين لتلك اللغة، أي حاملاً لدلالة مفهومة، فيغتدي النطق، أي تشكيل الأصوات بواسطة حبال الحنجرة حاملاً لمعرفة (رسالة)، ومعبّراً عن عاطفة. أقول: تطلق اللغات الغربيّة بعامّة، ومعها العربيّة، على هذا الجهاز الصوتيّ الذي يقترب من أسرار العجائبيّة “اللسان”، (Langue). وكأنّه من باب إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، أي أنّ اللسان البشري هو الذي ينظّم الأصوات ويُقَعِّدها فتغتدي شفراتٍ مفهومةً بين الناطقين بها. واللسانيّاتِيّون العرب يميّزون، منذ ابن جنّي، بين الكلام، واللغة، واللسان، فعلماء اللغة العرب يستعملون “اللسان” إذا أرادوا إلى كافّة التعليمِيَّات المتمحّضة لقواعد هذا اللسان الذي تنطقه الأمّة العربيّة، فاللسان العربيّ هو، إذن، كلّ هذه المجموعة من الألفاظ بكلّ أنظمتها الصوتيّة والنحويّة والبلاغيّة، الْمُفْضِية إلى دلالة بعينها، إذا مثُلتْ في تشكّلها العامّ. في حين أنّ اللغة (Langage) تطلق على خصوصية الكتابة عند كاتب أو شاعر، فنقول: لغة الجاحظ، ولغة المتنبّي، ولكنّنا لا نقول: لسانهما، لأنّ اللسان عامّ، واللغة خاصّة. وتقف العربيّة اليوم متفرّجةً على ما يجري في اللغات العالميّة الحيّة، ولا سيّما الإنجليزيّة التي بلغ انتشارُها حدّ الطغيان، وهو يوشِك أن يقضي على اللغات والثقافات الإنسانيّة المحلّيّة، ذلك بأنّ كلّ شيء يتجاوز الحدّ، ينقلب إلى الضدّ. ونحن نرى أنّ العربيّة تستطيع، وبسهولة شديدة، مجاراة الإنجليزيّة إذا نبذ أهلُها، من علمائها، التوجُّسَ من عدَم كفاءتها. ومن الأمثل عدمُ التعصّب الشديد في نقْل المصطلحات العلميّة التي لا نرى بأساً بنقلها كما هي اختصاراً للزمن، واقتصار اللغة العربيّة، أثناء ذلك، على الشرح والتقديم. ومن أكبر الْبُرْهاناتِ على إمكان بعْث العربيّة من جديد، هو نموذج اللغة العبريّة (أو هاعِ?ْرِيث)، فقد أخبرنا الدكتور تقيّ الدين الهلال، ونحن طلاّب ندرس العبريّة بجامعة الرباط، أنّ الطلبة في إسرائيل أضربوا عن الدراسة سنة 1958، رافضين تعلّمَ العلومِ بالإنجليزيّة، فأصبح التعليم في معظم شعبه العليا بالعبريّة هناك... كما أخبرني أحدُ المستشرقين اليهود، على هامش ندوة عالميّة انعقدت بستراسبورغ بفرنسا، عن موضوع “الميراث الثقافي العربيّ في أوروبا” أنّ العبريّة لم يكن لها نحوٌ لدى بعْثِها من العدم، فاستعاروا لها قواعد النحو العربيّ... أفتُرْفِدُ لغتُنا لغاتٍ أخرى، وتعجز هي عنْ أن تنهضَ بنفسها؟