غسان كنفاني، شهيد الأدب الفلسطيني العربي والإنساني الذي اختطفته أيادي الجريمة الصهيونيّة، ورحل باكراً، في منتصف الثلاثينيات من عمره الغنيّ بالعطاء الإبداعي المتنوع، من الرواية والقصة حتى المقالة والمسرحية وغني بالنضال الوطني وتأسيس المنابر والأدبيات التي تعبر عنه، فهو مؤسس مجلة الهدف وغيرها... عمر قصير قضاه كنفاني على هذه الأرض المنكوبة بكافة أنواع الاحتلالات والأوبئة والجرائم. لم يكن كنفاني الشاهد على كل ذلك فحسب، وإنما المشارك الفعلي والعضوي حيث توحد الأدب والفعل والسلوك، في شخص قل نظيره في عالمنا.. وهو في غمرة انخراطه في نسيج النضال الوطني، وقضاياه، لم يحول الأدب إلى يافطة أو شعار سطحي لقضية او زعيم أو سياسة مهما بلغ وهم طهارتها وتقديسها.. أعطى الأدب حقه في الاستقلال والحريّة والتجريب الإبداعي الطليعي. وهو من موقعه العالي هذا، استطاع ان يؤسس ويخدم قضيّة شعبه المقتلع والمبدَّد في أرجاء الأرض فيما يدل جزماً على الجريمة التي تواطأت عليها أركان القوى البشريّة جمعاء.. هذه التراجيديا الفلسطينيّة والانهيار العربي، كانا الهاجس الأساس الذي يفترس أعماق غسان كنفاني، وهي التي حددت بصرامة القدَر والحسم المبدئي مصيره الأدبي والحياتي.. في روايتيه “رجال في الشمس” و”ما تبقى لكم” يصل كنفاني إلى ذروته التعبيرية في القبض على روح هذه الشخصية الفلسطينيّة التي عانت كل تلك المآسي العاتية والهزائم والشتات وما أوشك أن يدمر روحها وبنيتها الأخلاقيّة والاجتماعية والوطنية لتكون لاحقاً لقمة يبتلعها الأعداء المدجّجون بسهولة فائقة. فانكسار روح الفعل والمقاومة هي حجر الأساس في الاستهداف والصراع الدائر بأشكال مختلفة. يلتقط كنفاني هذه اللحظة الخطيرة في معظم أدبه، خاصة في “رجال في الشمس”، حيث يموت الرجال المهرَّبون من البصرة الى الكويت في قلب الصحراء الجحيميّة اللاهبة، يموتون هكذا، في خزانة السيارة اختناقاً وشللاً حتى عن اجتراح أبسط فعل غريزي لانقاذ حياتهم، وهو طرْق الخزّان، خبطه باليد العزلاء المشرّدة. هذا الشلل، هذه اللحظة التراجيديّة المرعبة، هي التي وضع كنفاني بمقدرة تعبيرية مدهشة، عليها يده، يمضي فيها ويغوص في ثناياها وبواطنها ليفتت ذلك العَفن الذي خلفته الهزائم، ويشق الإنسان، الفلسطيني طريقه الجديد في الفعل والنضال والمعرفة، من أجل حقوقه الوطنية والإنسانيّة الطبيعيّة. إذ يتجاوز فعله قرع الخزّان، إلى آفاق أكثر رحابة وفعلاً ابداعياً وكرامة.. *** تُرى، ماذا سيجد غسان كنفاني الذي كانت ولادته في عكا، واستشهد عام 1972 في بيروت، حين ينتفض على جدار قبره، كما كان يحلم بانبلاج أولئك الرجال الذين يقرعون جدران الخزانات والسجون ويقتحمون مدن الأعداء بعزيمة وبأس شديدين؟. كيف سينظر كنفاني إلى المشهد الفلسطيني الممزّق الذي تفترسه الخلافات الداخليّة والاحتراب الأخوي الأكثر عنفاً من الحرب المشروعة مع العدو البالغ الوضوح؟! وكيف سينظر إلى المشهد العربي برمته؟!