الاحتفاء بمئوية مولد نجيب محفوظ هذه الأيام لها اكثر من دلالة ثقافية؛ في المقدمة منها كونها عرفاناً أكيداً لكفاح كاتب يستحق ميلاده وقفة تأمل ومراجعة؛ فخلال القرن الذي انصرف منذ ولادته لم يكن نجيب محفوظ (11/12/1911 ـ 30/8/2006) عابرا متعجلا أو متواطئا، وقد أحسن المحتفون إذ اتخذوا ميلاده مناسبة لاستذكاره إشارة لحياته المستمرة. وردّا لتوقعاته بأن آفة حارتنا النسيان! وهو حدث يوافق مجريات وقائع حياة محفوظ نفسها، منذ ولادته المتعسرة التي تسببت في تسميته بالاسم المركب لطبيبه الذي ساعدت يداه في إخراجه للنور ومنحه هبة لوطنه ولغته وأدبها، لكن يدا سوداء أخرى حاولت عام 1994 أن تطعنه بسكين التطرف؛ ولم يشفع له في منهج القتلة الظلاميين أنه حاز عنها نوبل العرب اليتيمة للآن، بجدارة متفق عليها رغم الضباب أو الغبار الذي أثير حينها حول النيات المتوهمة لمانحي الجائزة، والتشكيك بأحقية نجيب محفظ احتكاما خاطئاً لمواقفه خارج الأدب والكتابة، وتأويلها بتعسف لتغييبها بفعل لا يقل أذاه عن محاولة تصفية جسده. وكم كان طريفا يدخل في باب المفارقة أن نقرأ في فضاء الاحتفاء بمئوية محفوظ، استعادة للقاء صحفي مع منفذ جريمة طعنه، والأغرب هو ماجاء في قول الجاني إنه لم يقرأ شيئا لمحفوظ، ولا يرى في قراءته جدوى؛ لأن كتابته كفر كما أخبره شيوخه الذين قال: إنهم شرفوني بتكليفي بالعمل فنفذته. يدان لقهر العدم ومنح الحياة تمثلها يدا طبيبه عند ولادته، ويدان أراد الجاني أن يوقّع بهما أمرا بموت الكاتب، وسيتمدد الحكم بالموت والحجب لينال واحدة من اكثر روايات محفوظ مهارة وفنية وأخطرها في دلالاتها الأنطولوجية وصراع الخير والشر عبر تاريخ البشرية؛ فمنع نشر”أولاد حارتنا” في مصر، وصادرتها الرقابات العربية المتسلطة على الفكر في عدة بلدان، ولاحق القتل طبعاتها التالية وعرضها او بيعها؛ فجاءت نوبل لتحررها وتعيد طباعتها في الوطن الذي كرس محفوظ سنوات عمره لخدمة ثقافته وحضارته. وكانت أعماله سجلا لما تمور به بلاده من مخاضات استل منها برؤية فنية وقائع اصبحت كالثلاثية سردا قصصيا وروائيا، يوازن بين محليته التي جسّدها بالشخصيات والامكنة والموضوعات والدلالات البيئية، وحداثة تقنياته وتنوع أسلوبياته ما أعطى أعماله تميزها الفني حتى في المرحلة الواقعية التي ارتبط فيها بالتاريخ والمجتمع، وكان حضور الذات ومكابداتها وتطور المجتمع من اهم التعديلات التي اقترحتها سرديات نجيب محفوظ، وما تفرع عنها من مواجهات حول مكانة المرأة والانتصار للفقراء والمهمشين وللحرية والعدل والحياة الكريمة. أستعيد هنا من الذاكرة حين كنت أعمل مدرسا في واسط أن أعرابيا بسيطا نبهني إلى حكمة وجود مزار كبير فيها لسعيد بن جبير، بينما لا أحد يعرف اثرا للحجاج قاتل ابن جبير. وهكذا انطمست أسماء الجناة وظل محفوظ حاضرا مستعادا حتى يوم وُلد.. ودخل التجربة فدوّنها وأدخلنا فيها.