“على العموم، أنا مش ضليع في علوم الانضباط”. قال “شاعر تكدير الأمن العام”، كما يسميه صلاح عيسى. تلك الجملة، هي الهوية الشعرية والسياسية والإنسانية، لأحمد فؤاد نجم، الذي عاش صاخبا ورحل وسط الصخب والضجيج. واظب نجم، طيلة عمره الشعري المديد، على تكدير النائم، والهادئ، والصامت، والمتواطئ، والمتسلط، والمتهاون، والمتلهي. هؤلاء، بما ومن يمثلون، كانوا “الملهمين” الحقيقيين لـ”الفاجومي”. لولا وجودهم، لظل “شاعر الغلابة” مجرد صوت يغني له مطرب، أو تهتز على أغانيه راقصة. أعداء نجم، هم شموع تألقه. هم تعويذة نجاحه. هم الذين منحوا قصائده مادة ثرية لتصبح علامة في الهجاء السياسي المعاصر. نجح نجم بهؤلاء لأنه حسم خياراته مبكرا، وصاح بصوته الشعبي الأصيل “يعيش أهل بلدي”. فورث بهذا الانحياز مكانة عبدالله النديم وبيرم التونسي، واصطف إلى جانب فؤاد حداد وصلاح جاهين، وتصدر جيل عبدالرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، ومجدي نجيب، وفؤاد قاعود. رثى كثيرون “عم نجم”. استذكروا وقفاته، وتحدياته. استذكروا الزنازين التي آوته تسع مرات خلال حياته، أحيانا لأسابيع، وأخرى لسنوات. وتأوهوا على حال الشعر العامي، السياسي، النضالي من بعده. هنا أخطأوا. لم ينتبهوا إلى أن أحمد فؤاد نجم، كان من الحنكة بحيث إنه سلّم مفاتيح خزنته الشعرية، للوارثين، ولا بد أن يكونوا كثرا. وأهم تلك المفاتيح، هي تلك “البراحة” في المبنى والمعنى. لم يكتب نجم قصيدة وفي رأسه أستاذ قواعد نقدية، أو شرطي صياغة، أو مايسترو تنظير. كتب قصيدته “على بساط أحمدي”. استخدم اللغة التي يتكلم بها، سواق الأوتوبيس، وعامل القهوة، والنقّاش، و”شحاتة المعسل” الذي كان برتبة الرجل الأول.. لكنه ضخ في تلك اللغة، المدهش، والمكتوم، والمفاجئ، والمرذول، والموحي، والمباشر، فكانت قصيدته “مغناطيسية” تجذب، وتستحث، وتغوي، على الإتيان بمثلها. وقد استجاب للإغواء كثيرون، فأخفق من أخفق، ونجح من نجح. وفي الحالين فإن الفضل لنجم وقصيدته. المفتاح الثاني في قصيدة نجم، هو ذلك المزج الواعي، المتكامل بين الهم الاجتماعي والهم الوطني. في هذا الجانب ارتبك شعراء “مناضلون” كثر. ضاعوا في الأولويات. بعضهم قدم هموم الخبز اليومي للجائعين والمعذبين، على قضية التحرر الوطني. بعضهم فعل العكس. قالوا: فلتخرس كل الأصوات، ولتضمر كل البطون، أمام معركة المصير الوطني. ومن الواضح إن هذه المسألة عند نجم كانت فطرية واختيارية في آن. وعنها يقول: “لقد تعلمت من كل هذه المشاهد درساً كبيراً، هو إن القضية الوطنية لا تنفصل عن القضية الاجتماعية. كنت مقهوراً وأرى القهر من حولي أشكالاً ونماذج، لكن شوقي إلى الحرية والعدل وإيماني بالمستقبل كان أكبر من كل ظلم وفساد”. وبهذا المعنى أصبح نجم ناطقاً بلسان الجموع. أو صوت الذين لا صوت لهم. هو الشاعر الوحيد الذي يستطيع أن يصيغ الموقف السياسي، الآني، بقصيدة تعيش مع الأجيال. جيل اليوم، كما الأجيال السابقة، يغني مع الشيخ إمام: شرفت يا نيكسون بابا، وبهية، واطلق كلابك في الشوارع، وحاحا، والشعب الزين،هما مين، والخط دا خطي، وجيفارا مات.. من غرفته فوق السطوح في “حوش قدم” خاض نجم بقصيدته سباق حواجز. قفز فوق حاجز الفصحى أولاً، واجتاز حاجز الحدود الوطنية ثانياً، فأصبحت معه قصيدة العامية المصرية قصيدة عربية، تتردد في الساحات والميادين.. صدقت نبوءته بـ”بشاير يناير”.. لذلك نرثي الآن نجم، ولا نرثي قصيدته.. نجم رحل.. نجم سيبزغ. adelk58@hotmail.com