يفترض القارئ بخبرته أن الذهب يسطع مزهواً بمعدنه. لكن الشعراء يرونه فاقداً ذلك السطوع بما يؤطر وجوده.. من أجل سطوع الذهب ـ وهو عنوان الديوان الثالث للشاعر العراقي المهاجر فضل خلف جبر ـ يتمثل الشعراء رمزية الانطفاء فيعِدون قراءهم بأن ينافحوا من أجل عودته. والهجرة التي اختارها فضل لنفسه لم تكن استراحة بل بدء عناء يضاعف الشعور بافتقاد جوهر السطوع الذي يلتقط له الشاعر وقائع تستحيل نصوصاً. فاختيار نقطة التقاء الشاعر بالحدث تتم ببراعة يتوافق فيها إيقاع النصوص التي هي قصائد نثر في تجنيسها النوعي، مع الدلالة التي لا يخفى ملخصها فتغدو محنة الوطن بعيدا في الخريطة وقريباً في القلب هي الجملة التي تتردد بكيفيات متعددة. يقوي السرد طاقة الشعر في الديوان. وتتحرك الذاكرة أيضاً باتجاه تقوية الدلالة. فتكون القصيدة مصهراً لذلك كله. عاصفة لغوية وصورية تأتي بكل شيء: المحلي والحداثوي. الوصف والانزياحات، السرد والشعر، الخيال والذاكرة، التاريخ والفلكلور، الصورة والسيناريو، الواقع والإيهام. لكن الأكثر أثراً في التلقي هو تزاوج الدمعة والسخرية. سخرية لا تخفى مرارتها. يتم ذلك بانضباط سردي لايختل فيه موقع الشاعر وقناعه، كما في قصيدته عن مانديلا الذي خسر خصومه عداوته، ولم يتشفوا بفشله لأنه غادر السلطة حراً. والعراقي التائه في فضاء هجرته بعقاله وعباءته موسداً ثرى تربة أخرى بعيدة، والولد الذي ينتظر وصية الأب ليكبر، فينصحه بأن يقايس نفسه بارتفاع الأشجار لا بطول الزواحف. تغدو اللغة منقادة لذلك المصهر أيضا عبر انزياحات مفاجئة تغير خط سير المعنى لمصلحة الدلالة المتسعة بوجع الفقد: فقد الوطن وسطوع ذهبه، هكذا نتلقى تعبيرات مثل: اليوم النازف عشر من شهر المسكنة، وقطعان الضجر وماشيته التي صرنا رعاتها، وشهر آذار الذي مر سريعاً كحلم أو طلقة.. والديوان مناسبة أيضاً للتعرف على انشغالات راهن الشعر العراقي وحداثته. ثمة صورة لأسد بابل تجاور خريطة العراق. يوجه المقارنة بينهما عنوان القصيدة: كأنما العراق قُدَّ من أسد. يعرّض الشاعر نفسه وقراءه وقصيدته لعصف من الحزن حين يختار لحظة عبورفضاء بغداد بطائرة فيراها عابراً ويمر مرور الغريب ـ عنوان القصيدة ـ وهي بغداد التي يقول: “إنها قريبة وصادمة/ أكاد أتحسسها لصق شغاف قلبي/ لكنها مستحيلة كابتسامة البخيل” ولعل هذه اللقطة تلخص مكنون الخريطة الجينية للحزن العراقي كما يقول. يؤشر الديوان ميزة اخرى للشاعر فهو يستحضر الموروث الشعبي ومسمياته وتقاليده بطريقة تؤكد انفتاح الحداثة على ما يعضد شعرية النصوص ويوصل رسالتها دون اشتراطات مسبقة، رغم أن فضل من بين قلة من شعراء المغتربات الذين افادوا من إقامتهم الجديدة، ولم يعيشوا المهجر بأجسادهم فحسب. وهذا واضح في رؤيته ومعالجته للموضوع ولغته والحرية التي منحها لنفسه في اختيار الموضوع أو كيفية عرضه وبالوسائل التي ذكرنا بعضها . حين أسافر استعجل الوصول وحين أصل استعجل السفر.كأن فضل يعيد مأزق الشعراء في لحظة اختيارعسيرة إزاء ما يبصرون، وما يتخفى وراء الأبصار.