منذ عقدين من الزمان، والدم العربي أرخص من التراب، والأوطان تتنازعها رغبات وغايات وأطياف وأصناف، وأحياناً أنصاف.
في كل حرب تدار رحاها في هذا البلد أو ذاك، هناك سندويشات من الأسباب والمسوغات معدة سلفاً، وفي كل بلد هناك من نقاط الضعف ما يعجل انتشار النار في هشيمها، والأسباب عديدة وأهمها التسلط من جانب، ورخص الضمائر من جانب آخر.
واليوم عندما نقرأ الخارطة العربية، نجد هناك ما يؤكد المقولة “الحيطة الهابطة مهبط العيون”، لذلك قامت ما يسمى بالثورات وانتعشت المعارضات التي حطت فجأة في المطارات البعيدة والقريبة معربة عن إصرارها في النضال ضد الديكتاتورية والاستبداد والفساد، هذه المعارضة عندما تنظر إلى وجوه أصحابها تشعر أن الذي أمامك ليس إلا نسراً هبط بجناحيه على فريسة نطيحة أو متردية، فانقض انقضاض السهم ليأخذ من الطيب نصيباً قبل أن يقتنصه غيره، ويصير هو خالي الوفاض.
أما عن تلك الأنظمة، حتى بتزمتها واستبدادها، وحروبها الخيالية ضد الاستعمار، ونضالاتها الوهمية الأشبه بأحلام المراهقات، فإنها السبب في إضعاف المواطن وتفريغه من محتواه الوطني، وجعله يسير في الطرقات كالمجنون يصرخ بواسع حنجرته ولا يدري ماذا يريد، أحياناً يطالب بالإصلاح، وأحياناً بتغيير الدستور، وثالثاً يطالب بالإسقاط، ولا أحد يسقط غير الوطن الذي يذهب إثر تناحر بلا هدف، وتناطح من أجل تفريغ عُقد نقص وانتكاسات نفسية مضت عليها قرون. ففي البلدان “الثورية” حتى الآن لم ينجح أحد لأنه لا أحد فكر في الوطن، بل إن الخصوم يتكئون على مساند الغير، وكل طرف يريد إحراج الطرف الآخر وإخراجه من دائرة الضوء ليحل محله.
حقيقة أنا مقتنع بأن الديكتاتوريين لا يريدون أن يتزحزحوا قيد أنملة عن الكراسي، لأن لها بريقاً أشبه ببريق النجوم، والمعارضون يقولون لماذا لا نكون نحن لأننا الأحق، وتحت خيمة الديمقراطية ترتكب جرائم أفظع من جرائم الإبادة الجماعية في رواندا، والكل يغني على ليلاه، والكل يقول أنا ومن بعدي الطوفان، والواقع يقول إننا لن نصير يوماً مثل اليابان أو ألمانيا، ولا حتى مثل تايوان، هذه البلاد التي تخلصت من عُقدة “الأنا” واتجهت نحو ألـ “نحن” فأنتجت وأبدعت، واتخذت لها مكاناً رفيعاً وواسعاً في العالم، فزعيقنا سيظل في مستوى الشارع، لأن معارضتنا لم تطرح مشاريع تعليمية ولا خدمية، ولا تنموية، بل الهدف لديها إسقاط من تريد إسقاطه، ثم نفكر في تنفيذ نفس الأجندة السابقة، فقط بفستان عُرس جديد وفضفاض أكثر يبرز العورة أكثر مما يسترها.
لا أحد لا يريد الحرية، ولا أحد لا يفكر بالديمقراطية، لكنها يجب أن تتكئ على أسس ومشروعات وطنية وليست ذاتية أو تنفيسية فجة لا تخدم إلا أغراض أصحابها.


marafea@emi.ae