نعتقد ونحن نسعى للثراء، أننا نطرق أبواب السعادة، بأيدٍ ثقيلة يسمعها القاصي والداني، ونعتقد أن في المال خير مآل، وأجمل الأحوال، لأنه الخلطة السحرية التي جاءت ببلقيس طائعة ضارعة خاشعة، ولأنه القوة التي لا تُقاوم، ولا تُزاحم، فعندما تكون بين يديك تلك الأوراق الخضراء، فإنها تورق كل الأغصان، وتزهر كل الحقول، وتعشب الصحارى، وتخضرُّ لها الجبال القاحلة والشاحبة.. لذلك فإن الإنسان يقضي ليلته يفكر كيف تنجب له الأرض، ما يطيح حاجته وكيف تحبل السماء بما يبل ريقه، ويذهب عنه أرق الأيام، أما في النهار قائظاً أم بارداً، فإن الإنسان يمضي وفي عينيه بريق الأمل، يملأ المُقل، ويُكحل بالأحلام عينين أسغبهما التعب، ونال منهما الشغب، والبعض يطرق أبواباً مفتوحة، والآخر يكسر الأقفال ويقتحم، ويعتقد أنه سيسعد بما آل إليه من مال.. ولكن الثري النمساوي، اكتشف عكس هذه النظرة، فانبرى الرجل يبيع كل ما لديه من ممتلكات ثم يوزع فلوسها على الجمعيات الخيرية، ليكتفي براتب شهر لا يتجاوز الـ 1350 دولاراً فقط ومنزل صغير.. ويقول كارل رابيدير البالغ من العمر 48 عاماً إنه كان يعتقد أن ثروته الفاحشة ستجلب له السعادة، لكنه اكتشف أن هذه الثروة هي السبب في جرِّه إلى مهاوي التعاسة، والإرهاق، والركض خلف السراب، وبعد 20 عاماً من الثراء، يعود رابيدير إلى العيش البسيط، الذي وفر له الأمن والطمأنينة وحياة خالية من المطاردة واللهاث خلف المزيد من الدولارات التي لا تنتهي اللهفة حولها ووراءها.
ما فعله رابيدير ربما يحسبه البعض ضرباً من الجنون واختلالاً في التوازن النفسي، لأنه ما من شك أن للمال رونقه وبريقه وله مكانته في النفس، ومن ليس له مال فعنه الناس قد مالوا، هذه حقيقة لا يمكن تجاوزها، أو تجاهلها، ولكن ما نستفيده من درس رابيدير هو أن الاعتدال خير وسيلة لدرء خطر تدهور الضمير الإنساني، لأن للمال أنياباً شرسة، لو تركت طليقة مطلقة العنان، فإنها تأكل بوحشية، وتستولي على مصير الإنسان بلا رحمة.. المطلوب هو حب المال برأفة، والسعي إليه بأناة وتؤده.. وجمعه بحكمة العقلاء، والاستفادة منه دون تبذير أو تقتير.. فلا أحد يستطيع القول إنه لا يحب المال، فكل إنسان زُين له حب الذهب والفضة والخيل المسومة، والقناطير المقنطرة، ولكن دون أن يستعبدك هذا المال، الذي هو أداة وليس معولاً لهدم المشاعر الإنسانية وتفريغها من مضمونها.. فنحن نحتاج إلى المال ليسد حاجتنا ويمنع عنّا الفاقة والعوز، ولا نحتاجه ليكون لنا كابوساً يحرمنا ارتشاف عسل السعادة.


marafea@emi.ae