كان عملي في مجلة “فصول” لا يزال داخل النقد الأدبي الخالص، سواء بقسميه النظري والتطبيقي. ولكن مع عام 1989 كان لابد أن أتوقف مع نفسي، خصوصا ونحن نحتفل بمرور مائة عام على مولد طه حسين والعقاد بوصفهما رمزين كبيرين لحركة التنوير في مصر التي كانت قد أخذت تفتح صدرها لاتجاهات الإسلام السياسي، خصوصا التي كانت معادية للعقل والاستنارة والإبداع الذاتي والانفتاح الثقافي الخلاق على تجارب العالم كله. وكان السبب في اتساع نفوذ هذه الجماعات تحالف السادات معها، في مواجهة خصومه من الناصريين والقوميين واليساريين، ودعما له على الرجوع عن الطريق الذي مضى فيه جمال عبد الناصر مبشرا بأحلام الوحدة والحرية والعدل الاجتماعي. ولكن الكارثة التي حدثت في عام 1967عصفت بأحلام الدولة القومية، وكشفت عن جرثومة الخلل الداخلي فيها والمرتبط بالاستبداد. وباسم الديموقراطية والتعددية، فتح السادات أبواب السجون والمعتقلات لفصائل الإسلام السياسي التي كانت أعدى أعداء عبد الناصر، ورأت في السادات شريكا يمكن أن يتيح لها طريق السلطة. وهي الصخرة التي تحطم عليها التحالف، وقُتل السادات برصاص بعض هؤلاء الحلفاء. وفي هذا المناخ، أخذت تنتشر ثقافة تقليدية جامدة، تنظر شذرا إلى الاجتهاد العقلي، وتؤثر التقليد على الاجتهاد، وترى التقليد أحب إليها من مغامرة العقل في الاجتهاد، وتنسى ما يعرفه كل مسلم مستنير من أننا أدرى بشؤون دنيانا، وحيث تكون مصلحة الناس وتقدمهم فثمّ شرع الله. وكانوا، ولا يزالوان، أعداء التنوع الثقافي الخلاق، مستعدين للتحالف مع أي نظام حكم استبدادي ما دام يحقق مصالحهم السياسية التي هي الهدف المستتر وراء الأقنعة. وكان انتشار هؤلاء وما يشيعونه من أفكار مناقضة لتراث أمثال طه حسين والعقاد وهيكل وتوفيق الحكيم وإبداعات محمود مختار ومحمود سعيد وسيف وانلي وموسيقى عبد الوهاب وأغاني أم كلثوم.. أقول كان الانتشار المتزايد للفكر التقليدي الجامد الذي يتمسح في الدين مهددا لأحلام الاستنارة، ومسيرتها، ومعاديا لإمكان تحديث الدولة المدنية التي أرادوا أن يستبدلوا بها دولة دينية على الطريقة الأفغانية. وكان هذا التحدي يطرح على أمثالي السؤال: هل نقف صامتين، ونكتفي بالكتابة المتخصصة في النقد الأدبي التي لا يمكن ازدهارها إلا في مناخ من الحرية العقلانية؟ وكانت الإجابة الحتمية عن السؤال هي ضرورة أداء الدور المنوط بأستاذ الجامعة الذي هو مثقف في النهاية، والذي علمه طه حسين أن دوره في ثقافة المجتمع أوسع من تخصصه الضيق، ومن حدود أسوار الجامعة، وكانت النتيجة دخولي طرفا في تجديد الدعوة إلى الاستنارة التي تعني العقلانية وحرية التفكير والإبداع وحق الاختلاف والاجتهاد على السواء.