رؤية أم رؤيا؟ الأولى، تعني التفكير، الرأي، الموقف، ووجهة النظر. ويقول بها السياسيون والمسوسون، رواد المقاهي ونُدُلها، الجارة وجارتها. وأيضاً باراك أوباما وفلاديمير بوتين. الثانية هي التجلي، الاستشراف، الاستبصار، الإلهام. وهي تحل على السادرين في نومهم. أو الحالمين بلا نوم. أو العارفين، ومن هؤلاء المتصوفة. أو المسافرين وراء الخيال، ومن هؤلاء الشعراء. شعراء موريتانيا، نقلوا أنفسهم من المربع الثاني إلى الخانة الأولى، بقرار حزبي. شعراء البلد الذي يحمل لقب المليون شاعر، قبل زمن «شاعر المليون»، قرروا الانغماس بالعمل السياسي المحلي، عبر أداتهم الخاصة، فأسسوا لهذه الغاية حزباً، يقتصر عليهم، وأعطوه اسم «الرؤية الجديدة». للحزب هيكلية قيادية، ومجالس، وفروع.. لكن لا ميليشيا حتى الآن. التسمية تحصر دلالاتها، وهي أقل بكثير من عنوان قصيدة عادية كتبها شاعر غير موهوب. لكن العمل نفسه يحتاج إلى تأويل. فمن حيث المبدأ، يحق للشعراء ما لا يحق لغيرهم. من حقهم أن ينفضوا عنهم رداء الشللية الذي تلبسهم في كل آن وكل حين. لعل العمل الحزبي ينجيهم من ذلك المرض الخبيث. ثم أن يفكر الشعراء بتسلم السلطة ـ وهي غاية كل مشتغل بالسياسة ـ قد يشكل إضافة إلى السياسة وليس إلى الشعر. إنها فرصة للصدق، والحساسية، والشفافية و... تكاد تطير فرحاً على طريقة أرخميدس، وأنت تصيح: أوريكا.. أوريكا.. (وجدتها.. وجدتها..)، قبل أن تفطن لمساوئ، وعقبات، ومخاطر مثل هذه المبادرة. فتجارب الشعراء السابقين، أو المتشاعرين، في السياسة والسلطة لم تكن مبشرة. التشيرمان ماو، الشاعر الرقيق، وضع ثورة الصين العظيمة في أحضان عصابة الأربعة قبل رحيله. صدام، الضائع بين السياسة والرواية، ختم حياته بمرثية لولديه، بعد أن سلم بلده لأعدائه. السنغالي ليوبولد سيدار سينغور، كان من طينة أخرى. لم يدع السياسة تهزمه حتى لا ينهزم في مقام الشعر، فغادر قصر الحكم طواعية. هذه التجارب، وغيرها، تضع التجربة الموريتانية على المحك. فأعضاء حزب «الرؤية الجديدة» يعكفون الآن على تنظيم بيتهم الداخلي. وهو ما يثير تساؤلات من لدن بيت الشعر: فهل سيجتمع الشعراء الكلاسيكيون وشعراء الحداثة وما بعدها تحت سقف واحد؟ وماذا لو طالب الخليليون والأدونيسيون بحصص تمثيلية؟ وما هو موقع النقّاد داخل هذا الكيان الحزبي؟ هل سيأتون بمناهجهم ونظرياتهم لكي يخلخلوا البنى كما يفعلون عادة بالنصوص؟ وماذا عن الشعراء الشعبيين؟ أليسوا هم الأكثر عدداً والأبلغ تأثيراً؟ وإذا كان ذلك لا يعتبر مشكلة جوهرية في المثال الموريتاني، فماذا لو انتقلت التجربة إلى أنحاء العالم العربي؟ من يستطيع مجاراة شعراء النبط الخليجيين، مثلاً، بطول أناتهم، وهم الذين يبدأون قراءة قصائدهم قبل صلاة الظهر وينهونها مع صلاة العصر؟ وفي مصر، ماذا تستطيع أن تفعل إذا انضم إلى الحزب الريّس متقال مع فرقته ومزاميره؟ أما في بلاد الشام، فالأمر في غاية التعقيد. فجوقات الزجل متخاصمة على المنابر، كما عصابات الشوارع. فكيف سيؤول الأمر إذا انضمت إلى الحزب بكامل عدتها، من قصائد ومازات؟ أمام هذا المشهد «الرؤيوي» نكاد نقول إن مبادرة تأسيس حزب للشعراء، تحمل في طياتها شبهات. وباللغة السائدة في ميادين الحراك الشعبي حالياً، قد يخرج من يتحدث عن “أجندات خارجية”، و”أصابع أجنبية”، و”مخططات تخريبية” موكولة إلى الشعراء.. فتهون أمامها مساوئ الشللية، وتجمعات النميمة والنق. أما إذا استفحل الأمر، وأصبح حزب الشعراء جزءاً من الخريطة السياسية المتفجرة في بعض البلدان، فسيجد نفسه في منافسة عصية وعصيبة مع «ثوار مصراتة».. adelk58@hotmail.com