منذ عدة عقود، اختلط الحابل بالنابل، ولم نعد نعرف في علاقتنا العربية والدولية من العدو ومن الصديق. غاب الوضوح في الرؤية للمصالح وللدور الوطني، واختفى شعار «نصادق من يصادقنا، ونعادي من يعادينا» أو «نحارب من يحاربنا ونسالم من يسالمنا». كان النضال الوطني منذ احتلال مصر عام 1882، وقيام ثورة 1919 ثم ثورة 1952.. من أجل الدفاع عن الاستقلال الوطني للبلدان. وكانت الحركة الوطنية المصرية ممثلة في لجنة الطلبة والعمال عام 1946 تهدف لتحقيق الاستقلال، وكان الشعار هو «الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، وإن لم يعجب القصر والباشوات في الداخل. وفي ثورة 1952 كانت المبادئ الستة واضحة، وفي مقدمتها: محاربة الاستعمار والإقطاع والفساد، وإقامة مجتمع الحرية والمساواة، وإقامة حياة نيابية سليمة، والقضاء على فساد الأحزاب وتزوير الانتخابات. وكان حراك «الربيع العربي» في 2011 يهدف إلى تحقيق مبادئ أربعة: العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية.. كما كان الشعار الثلاثي الشهير للثورة الفرنسية: الحرية، والإخاء، والمساواة. لكن في كثير من أنحاء العالم العربي اليوم، لم يعد الكثيرون يعرفون مَن العدو ومَن الصديق؟ وربما يجعلون العدو صديقاً، والصديق عدواً. فإسرائيل أصبحت صديقاً بعد عقد معاهدة السلام معها قبل الانسحاب من جميع الأراضي المحتلة في الضفة والجولان وقبل استرجاع كامل السيادة على سيناء. وكذلك الذين يمدونها بالسلاح. وربما الأخطر هو ضرب سوريا بالطائرات، ليتحول نصف الشعب السوري إلى مهاجرين ولاجئين وقتلى. وفي مؤتمرات السلام حول سوريا، تُدعى روسيا وأميركا وتركيا وإيران، مع استبعاد للدول العربية، وكأن سوريا لم تكن الحليف الأول لمصر ولم تكوِّنا ذات يوم أول تجربة وحدوية عربية في العصر الحديث، أي «الجمهورية العربية المتحدة» (1958-1961)، وحمل السوريون عربة عبد الناصر على الأكتاف خلال زيارته لدمشق! وبعد أن كنا معادين لمؤسسات الرأسمالية العالمية، أصبحنا نعتمد عليها في التمويل والإقراض. صادقنا الرأسمالية ورجال الأعمال وكبار التجار الذين كنا نعتبرهم «ناهبي قوت الشعب». ووضعنا سقفاً للحد الأدنى للأجور، ولم نضع سقفاً للحد الأعلى الذي يصل ملايين الجنيهات شهرياً لدى الفنانين والإعلاميين وكبار الضباط. وبدأنا نعادي مجانية التعليم، ونصادق المصروفات، وأصبح التعليم تجارة، لاسيما التعليم المفتوح. صادقنا التعليم الخاص، حيث يضطر الطالب لدفع الأموال الكثيرة، وأصبحت الجامعات الحكومية تقلد الجامعات الخاصة في هذا. عادينا الفقراء بفرض الضرائب، وصادقنا الأغنياء أصحاب العقارات والتجارة بالدولار الذي ارتفع سعره كثيراً، وإن كان الفقير لا يجد العملة المحلية ولا العملة الأجنبية. كما عادينا الأعمال وصادقنا الأقوال، بدعوى: «إنما الأعمال بالنيات». عادينا العشوائيات وأعطيناها الوعود وراء الوعود مع أن المليارات المهربة تكفي لإعادة بنائها وإسعاد الملايين. وصادقنا أصحاب التجمعات الجديدة. وهيأنا لهم كل أساليب الراحة من ماء نظيف، وصرف صحي، وطرقات ممهدة، وأمن ضد الحرائق، والهايبر ماركت الذي به كل شيء، ووسائل الترفيه من حدائق وحمامات سباحة وملاعب جولف وملاعب للأطفال. عادينا التقارير الرقابية والحسابية الأمينة والنزيهة وصادق بعضنا الفساد والاستيلاء على الأراضي العمومية، وتهريب الأموال. عادينا القانون، وصادقنا الرشوة في مخالفات المرور، والتعجيل باستخراج تصاريح المرور. وكانت نتيجة ذلك هي هجرة الأوطان، والوقوف أمام السفارات والقنصليات الأجنبية في طوابير لاستخراج تأشيرة دخول، أو بالأحرى تأشيرة خروج، بدلاً من الموت غرقاً في البحر في هجرة غير شرعية للوصول إلى الجانب الآخر من المتوسط. فالغرق هناك خير من الموت جوعاً هنا. والبعض يفضل الموت حرقاً، كما فعل البوعزيزي في تونس احتجاجاً على إهانته من شرطة البلدية وهو يصارع من أجل لقمة العيش. وقد كانت تلك الإهانة سبباً لتفجير «الربيع العربي» في تونس، قبل انتقاله إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن.. أملاً في الكرامة الإنسانية، أياً يكن ما حدث بعد ذلك. *أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة