هل تعيش القارة الأوربية في حاضرات أيامنا إشكالية هوية بين استقطاب أوراسي من جهة وأطلسي من جانب آخر؟ معني ذلك أن الاتحاد الأوروبي فشل في بلورة موقع وموضع له ككيان سياسي حول العالم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟ يكاد الأوربيون اليوم يشعرون بأنهم بين المطرقة والسندان، وتكاد الجغرافية الأوروبية ومن جديد تضحى ساحة للحروب بين الشرق والغرب. ويتخوف الأوربيون من أن يكون المشروع «الأوراسي» الذي نظر له كبار المفكرين الاستراتيجيين الروس، لاسيما «الكسندر دوجين» فيلسوف روسيا القيصرية الجديدة، وعقل فلاديمير بوتين الفاعل والناجز، عودة لبناء الاتحاد السوفييتي السابق، وقد كان من الطبيعي أن تذكي الولايات المتحدة الأميركية تلك الهواجس لدى الأوربيين لتصل إلى حد إثارة الشكوك المقلقة نهاراً وليلاً، ما دعا وزيرة خارجية أميركا، «هيلاري كلينتون»، في كلمة لها أمام منظمة الأمن والتعاون الأوروبي (‏OSCE) ?ديسمبر ?عام ?2012 ?لأن ?تصف ?مشروع ?الاتحاد ?الأوراسي ?بأنه ?محاولة «?إعادة – ?سوفتة، ?بل ?وتعهدت ?بافشاله»?. هل فشل الروس في ضم الأوروبيين في شراكة جغرافية تاريخية بالفعل؟ الشاهد أن هناك عاملين لعبا دوراً واضحاً في توجية سهام الاخفاق لهذا المشروع الكبير: الأول هو انهيار أسعار النفط، ما حرم الاتحاد الروسي من مداخيل مالية هائلة كانت ضمان وأمن اقتصادي، وعليه كانت تبنى رؤى وتطلعات مستقبلية. والثاني أزمة أوكرانيا، حيث اعتبر الأوربيون أن روسيا لا تزال باقية على الولاء للشمولية والديكتاتورية، وأن مساقات الديمقراطية عنها بعيدة جداً، وعلية فإن الشراكة مع القيصر الجديد لا تستقيم. على الجانب الروسي هل بات الروس مصرون على المضي قدماً في المشروع عينه؟ أغلب الظن أن الجواب لا، سيما وأن الأوروبيين لا ينظرون لروسيا على أنها جزء من حضارتهم الغربية. في الخريف الماضى أجرت وكالة «سبوتنيك» الروسية استطلاعاً للرأي حول موضوع: هل روسيا بلد أوروبي؟ وقد كانت النتيجة مثيرة للتأمل، فقد أشار غالبية الفرنسيين (65%) والبريطانيين (52%) بالسلب، وفي ألمانيا (46%) من المتطلعين، وبين البولنديين (20%) قالوا «لا» أيضاً. لدى الروس اليوم مشاعر قلقة من الأوربيين وهم يدركون تمام الإدراك أن الأميركيين يدفعونهم دفعاً لوقف استعادة القطبية الضائعة، بل إنهم يستحضروا ما قاله هتلر خلال الحرب العالمية الثانية من أن غرضه من الحرب هو دفع جنودة إلى جبال الأورال، ولهذا يقطع مفكروهم وكبار سياسييهم بأن الغرب لا يحتاج إلى روسيا الكبيرة القوية، وأنهم عندما يتشدقوا بأن الروس جزءاً من الحضارة الغربية، فهذا ليس سوى أدوات دعائية للاستدراج. على أنه وبالنظر إلى الشراكة الأوروبية – الأميركية نجد المشهد يتدهور يوماً تلو الآخر، فالولايات المتحدة ومنذ أن جلس ترامب على عرش البيت الأبيض، وهو لا ينفك يرسل الرسائل حول أهمية أميركا أولاً، وإن على الأوروبيين تحمل أعبائهم، وزيادة نسب مشاركاتهم في موازنة «الناتو»، وأنه لن يقبل بأقل من 2% من الناتج القومي لكل دولة على حدة، عطفاً على نظرته ل «الغبن الاقتصادي» الأوروبي للأميركيين وبخاصة من جهة ألمانيا، ما دعا أصوات أوروبية عديدة لأن تعلو بالقول إنه قد حان أوان بلورة رؤية أوروبية حقيقية اقتصادية وربما عسكرية، غير أن الواقع الأوروبي الإشكالي، عطفاً على الضغوطات الأميركية يزيد المأزق الأوروبي تأزماً..لماذا وكيف؟ يذهب البروفيسور الفرنسي الشهير «برتران بادي» أستاذ العلاقات الدولية في معهد العلوم السياسية في باريس في كتابه «لم نعد وحدنا في العالم» إلى أن أوروبا في أيامنا لا تزال تعاني عدم قدرتها على تحديد موقعها دولياً، ففي مرحلة أولى، كانت المغامرة الأوروبية إلى حد ما «إنطوائية» بحيث كان عليها أن تضع حداً للحروب الداخلية، ولم تأخد بعين الحسبان سائر أنحاء العالم إلا لماماً. السؤال المزعج للأوروبيين اليوم: هل أوروبا قوة من بين القوى في العالم، أم هي القوة المخولة للسيطرة على العالم؟ والأمر ينطبق كذلك على علاقاتها بالدول الناهضة الكبرى، ولاسيما دول مجموعة «بريكس»، التي لم تعرف أوروبا كيف تبني معها صيغة تعايش وتعاون مثمر. وعطفاً على ذلك، فقد فشل الأوروبيون في تقاسم الخسائر بعد الأزمة الاقتصادية العالمية 2007 – 2008، وكأن الاتحاد كان فرصة لتعزيز مكاسب الكبار لاسيما ألمانيا. من هنا عاد العالم إلى ثنائية أميركا – روسيا، فيما أوروبا لا تستشار إلا للحفاظ على ماء الوجه، وعلى سبيل المجاملة الخالية تقريباً من أي مضمون، والتي تنطوي على النفاق في بعض الأحيان. هل حل أوروبا في تكوين جيش موحد للاتحاد الأوربي يكون بديلاً عن الشراكة مع الولايات المتحدة وعصا ترفع في وجه الروس؟ الأميركيون بالقطع يقفون من وراء الستار رافضين للفكرة شكلاً وموضوعاً، ومصلحتهم الاستراتيجية في أن تبقى أوروبا ضعيفة وفي حاجة للحماية الأميركية، على أن الاخفاق الأكبر الذي يواجه الطرح العسكري الأوروبي يتأتي من قلب أوروبا ذاتها، سيما وأن البريطانيين والفرنسيين بنوع خاص قد رفضوا عام 2010 فكرة ألمانية في هذا الشأن «شنجن عسكري»، وارتبطوا بشراكات عسكرية لمدة 50 عاماً، ما يعني المخاوف من أن تتجدد الرغبة الألمانية من جديد في الهيمنة على القارة الأوروبية عسكرياً. الخلاصة: الماضي لا يموت، والبيت الأوروبي المنقسم على ذاته لا يثبت، والمأزق الأوروبي قائماً إلى حين. *كاتب مصري