ينشد المرء في هذا اليوم اجتماع كلمة المسلمين على انشغال كل امرئ بنفسه، وقد تكون هذه الدعوة غريبة بعض الشيء، إذ المعتاد في مثل هذه الأيام الكلام حول الوحدة الإسلامية، فمنذ عقود رفع بعض المخلصين سقف توقعاتهم إلى وحدة إسلامية، ولم تتحقق هذه الوحدة؛ لأنها ببساطة لم تتحقق يوماً، وكان الصراع هو عنوان المراحل التاريخية المختلفة، واليوم نحن أبعد ما نكون عن تلك الوحدة المتخيلة، ويكفي أن يرفع المرء أكفّ الدعاء ليعمّ الهدوء بين المسلمين. لم تتحقق الوحدة الإسلامية المنشودة، وذهبت الدعوات المخلصة أدراج رياح الفتن، وسُحقت تحت ضربات التعصّب، وصارت الوحدة ألعوبة سياسية بيد هذه الدولة أو تلك، وهي لن تتحقق على أي حال كما لم تتحقق أي وحدة على أرضية دينية، والمسيحيون مثلاً لم يصبحوا يداً واحدة، فما يزالون مختلفين ومنقسمين إلى ملل وطوائف شتى، لكن الهدوء يسود فيما بينهم، بعد أن انشغلت كل جماعة بنفسها، وانشغل كل فرد بنفسه، ولم يعد ثمة سبب للجدال الذي يعقبه الخلاف، والذي ينتهي إلى قتال. لا يوم أفضل من يوم عرفة للتذكير بالفضيلة الغائبة، وهي انشغال الإنسان بنفسه، ففي هذا اليوم العظيم يقف الملايين من المسلمين في عرفة، ويتحد معهم شعورياً أكثر من مليار مسلم في أرجاء الدنيا، وكل امرئ منهم يبتغي فضل هذا اليوم، ساعياً نحو سفينة نوح، لينجو بنفسه من الطوفان، لا يشغله مذهب هذا أو ذاك، ولا تعنيه طريقة هذا أو ذاك، متحرراً من أوهام تفوقه وادعاءاته، لا ينوح على أحد، ولا يبكي حال أحد، موفراً دموعه ونواحه على حاله. وإذا كان يمكن وصف يوم عرفة، فهو بحقّ يوم انشغال الإنسان بنفسه، وهو يوم ضائع من عمر ساسة الدين، الذين يوهمون الناس بأن دينهم في خطر، ويروجون لأنفسهم كحرّاس للعقيدة، وأن هذه الحراسة لا تتم إلا بوصولهم إلى السُلطة. وهو يوم ضائع أيضاً من عمر دعاة التعصّب، الذين يصرفون الناس عن الانشغال بأنفسهم إلى الانشغال بغيرهم، مستخدمين فنون القيل والقال والجدل والخصام. في مثل هذا اليوم، تُفتح أبواب السماء، وتغلق دكاكين تسييس الدين، وفي مثل هذا اليوم ترتفع الأيدي بالدعاء، وتُرفع بسطات الطائفية من أطراف الطريق، ويعاني في هذا اليوم المتباكون على آخرة الناس لأغراض دنياهم هم، والمتاجرون بالمذاهب لاستمالة وجوه الناس، ضعف الإقبال عليهم، فالجميع مشغولون بأنفسهم، لا يلقون بالاً لقصص غربة الإسلام، ولا لادعاءات جاهلية المجتمعات، ولا لحكايات الفاضل والمفضول، ولا لبطولات القاتل والمقتول. في مثل هذا اليوم، يتذكر المرء أن الجهاد جهاد النفس، وأنه إذا كان ثمة عدو للإنسان فهو نفسه التي بين جنبيه، وليس أتباع الأديان الأخرى، ولا المذاهب الأخرى، ولا المجتمع، ولا الجيران، ولا الأهل، وأن الفوز كل الفوز في الانتصار على النفس، ذلك هو الفوز العظيم.